ابداعات ادبيه // عاشقة التوت الكاتبه عبير الطرابلسي ابداعات ادبيه // عاشقة التوت الكاتبه عبير الطرابلسي

ابداعات ادبيه // عاشقة التوت الكاتبه عبير الطرابلسي

 عاشقة التوت

الكاتبه عبير الطرابلسي

شامة زيّنَت يدها اليُمنى، مَيّزتها مُذ كانت صغيرة. كلّ من رآها سأل عنها. كانت تُجيب بأنّها موروث رغبة لم تتحقق أو هي بقيّة حبل سِريّ لم ينقطع بينها وبين والدتها. شامَة في شكل تُوتة تغدو أبرزَ في وقت التوت. شامة حَمَلَـتْها طابعا زيّن جلد يدِها وتغلّـل في خلاياها فوجَدت نفسها عاشقة للتوت. هذا العشق المُتوارث جينيا، تلك الرغبة التي جاءت ذات شتاء لأم حبلى بطفلة ـ وظلّت عالقة لم تتحقق ـ رُسِمت على يدها. وقتها لم تكن هي تفقه شيئا ممّا يَجول حولها خارج عالمها المائي، لم تكن تفعل غير السباحة، والنوم، والأكل فتنمو تدريجيا وقد أخذت من هذا ساقا ومن الآخر يدا من ذاك عينا ومن الآخر أنفا... وشامة توت. أَخذت جسدا متكاملا ولكن كذلك عشقا للتوت لا يعرف نهاية.
في كل صائفة وبعد انتهاء دراستها اعتادت الذهاب لبيت جدّتها. هو في الأصل بيت جدّها لكن لا أحد كان يعترف بملكيته له تصريحا وتسميةً رغم أنه صاحبه قانونا. أّترى كان هذا دافعه للتفريط فيه حتى يشعر بعظمة الامتلاك بعد أن ماتت جدّتها ؟ هي وأخوها يذهبان لقضاء العطلة الصيفية. هناك في قلب "السانية" كما كانوا يُسمُّونَها شجرة توت مقابلة للبيت. شجرة عظيمة كانت. ظلها وارف و جُذوعها عميقة عمق انتمائها لهذا المكان. هناك كانت جلستها اليومية. تترك الجميع نياما إلاّ أخاها فهو مشاكس لم يكن يعرف القيلولة وتجلس تحت شجرة التوت في أرجُوحة صُنعت لها ولأخيها. خيطان قابضان على غصنين ممتدين ينزلان من الأعلى لينتهيا في خشبة صلبة كانت تَجعلها طريّة على جسدها الرقيق بوضْع وسادة. هناك كان عالمها. لا تملُّ الجلوس فتُحضر كتابها مُرافقها اليومي وتَتركه جانبا بعد أن تتصفّح أوراقا منه. تُغمض عينيها وتَسبح في أصوات الطبيعة. زقزقة العصافير وصوت الدجاج والديكة مع خرير الخيط مع كل ذهاب وإياب للأرجوحة. هُدوء لا تُحْسِنُ عَزفه إلاّ الطبيعة. تَفتحُ عينيها بعد أن حَرّرت جسدها من وضعيّة الجلوس، فامـتدّ في تناسق وحركات الأرجوحة ذهابا إيابا، خفيفا كخفّة رُوح أوراق التوت، عليلا كنسيم صيفيّ ينعش النفس. حَرّرت عينيها لتنطلقا في تناغم وحركات جسدها ناظرة إلى الأعلى. سعيدة، مبتسمة للفضيّ والذهبيّ والأخضر ألوانا تُزيّن السماء الكوني لديها. تَتسرّبُ من بين أوراق التوت الخضراء أشعّة الشمس، ويَهبّ نسيم عليل مُحّركا خصلات شعرها الحريري القصير. مُتسلّلا إلى جسدها في ثيابها الصيفيّة الخفيفة. ابتسامة تُرسم على وجهها وهي تتسابق والأرجوحة أيُّهُما يَطال أوراق التوت قبلا. ساعات تستطيع أن تظلّها هناك لا يُعكّر صفوها غير صلابة الخشبة التي تجلس عليها. بين النسيم والأشعّة والهدوء كانت تتسلّقُ الشجرة بعينيها فتَبني أحلاما. كم كانت بسيطة و جميلة ، هي أحلام طفلة لم تكن ترى من الكون إلّا جماله وصفاءَه. هناك رَسَمت على الشجرة و الأرض و السماء عالما. هناك ضَحكت و قَرأت و أَكلت خصوصا، فما ألذّ طعم التوت حين نجنيه بأيدينا من أمّه التّي عَـرفَـتنا وألِــفَـتنا فكانت تَهبنا أطفالها طوعا هذا أبيض و هذا أسود و ذاك يُخالط أبيَضه سواده و ذاك خمريّ. نَقطفُ ونَأكل. لا تتذكر إن كانت تقوم بغسل التوت قبل أكله أم لا؟ قوانين السلامة الصحيّة لم تكن موجودة يومها. نَظرتْ ليَــدها و شامتها التوتيّة و هي تأكل التوت. أدركت أنّ تلك الطفلة لم تَغِب، و أنّ ذاك الانصهار لم يفتر، و أنّ هذا الجسد مازال يندفع دون تفكير كلّما وجد أرجوحة أو توتا .أدركت أنّ العشق لا يَقدم بالتقادم بل يزيد لهيبا. إليك يا عاشقة التوت صحن توت لذيذ حلو، استمتعي بأكله كما كنت تفعلين دوما.
عبيروس
قد تكون صورة ‏‏شخص أو أكثر‏ و‏نظارة شمسية‏‏


التعليقات

سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا

أحدث أقدم

إعلانات

إعلانات