"نشيج"
نسيج الذاكرة في تجربة الفنانة التشكيلية "فاطمة بلغيث "
د. مراد الزارعي، باريس
يقام حاليا بدار الثقافة "علي الدوعاجي " بمدينة حمام سوسة معرض الفنانة التشكيلية الباحثة "فاطمة بلغيث"، والذي يتواصل حتى الثامن والعشرين من هذا الشهر. حيث تتسم فكرة هذا المعرض "نشيج" بأنها لم تكن قط عرضية بل كانت نتيجة عملية تمخض فكري وثقافي وأكاديمي والأهم شخصي.
تجربة أقل ما يقال عنها ثرية ومغرية تنفتح على عوالم شتى من الأفكار الروحية والأحاسيس الشخصية التي تتصل مباشرة بعوالم الفنانة الباحثة في منطقها التعبيري ومنطلقها التصوري للأحداث الواقعية والتخييلية ومدى استيعابها لهذا الكم الهائل من الرموز والاستعارات التي حدت باللوحة أن تتسع وتتحول لتركيبة جمالية متكاملة، يمكن لها أن تستوعب هذا التظافر شكلا ومضمونا.
فضاء نسيجي أضحت فيه الرموز المنطق الجمالي الذي لم يفصل التجربة التشكيلية والبصرية عن واقعها اليومي وذاكرتها الجمعية، وإنما مهد لصياغة أسلوبية ومفهومية تحيلنا معاجمها على الحلم الذي يستظل بحواف الواقع والتحول من أثر الصدمة الصورية إلى صدام الفكرة بالمفهوم. وقد تعددت أشكال هذا الصدام الحسّي/المادي في هذه التجربة التشكيلية بصورة خيالية من خلال تحويل صورة ووظيفة احدى الرموز الشعبية وهي "صورة العبانة التقليدية" من غطاء صوفي متوارث منذ القدم الى تركيبة فنية نسيجية معاصرة تنفتح على سياقات ممكنة وأخرى لا ممكنة.
حيث أنتج هذا التحويل القصدي لوظيفة العبانة في تجربة الباحثة بلغيث فضاءات للتجريب والتشكيل الحر تحت ما نطلق عليه في مصطلحنا الفني العام بالتثاقف او المثاقفة في النسيج التشكيلي العام وفي الفنون المعاصرة بشكل خاص. وما يقتضيه هذا المصطلح الهام من تحديث لتركيبة المفاهيم المتداولة في حقل الفنون ومن مفاهيم شخصية تمتلكها الفنانة فتنطلق من مكونات وأسرار بحثها عن عوالم تفردها وخروجها عن دأب القطيع. والفنان وحده القادر على خلق مثل هذه المفاهيم وتسويقها فنيا وجماليا سواء في تونس أو خارجها.
" نشيج" هو احدى هذه الصور و المفاهيم المستحدثة التي ارتأتها الفنانة الباحثة في قطاع الفنون التشكيلية، الدكتورة "فاطمة بلغيث" لتنفض غبار التبعية والاجترار، وتتحرر بمنجزها التشكيلي ، وتكسبه من روحها التي تهوى المغامرة والإبحار عكس التيار. وهو ما يفسر مدى تأني هذه الفنانة في اختيار موضوعاتها والتعبير عنها بصدق وعنف وشبق.
على حافة نهر السان بمدينة باريس الفرنسية، أجلس متأملا بعمق منسوجات فاطمة الصوفية، فتشعرني بدفئ تلك الأرض الطيبة الحبيبة ، إلى رائحة أمي ، إلى أيام جميلة كانت ومضت، وأستذكر تلك اللحظات الرائعة التي جمعتني مصادفة وبتنسيق مع هذه الفنانة والإنسانة " فاطمة بلغيث"، صديقة صامدة عرفتها عن قرب منذ سنين، أحببت روحها وعشقت بريقا في عينها يشبه الحلم وشيئا ما بين التوسل والإصرار على تحقيقه، تلهمني بأفكارها المختلفة وتمردها الأنثوي في خطابها وكلامها وحتى كتاباتها الشبقية عن الجسد والرغبة والجنس... ففي عينيها الجميلتين يستقر زمن الحلم ويبدأ وطن التحقق المشبع بغرائز الأنثى المسكونة بالفعل والابداع والتحرر. الذي طبع أولى معارضها الفنية "نشيج".
ترشم فاطمة عبر فضاء لوحاتها النسيجية نقطة مضيئة تنير عبرها قنوات التواصل المرئي بيننا وبينها، فنحاول أن نتتبع اثار هذه الرشمة لنلامس جذورها وما يكسوها من عقد وخيوط صوفية وقد تم تطعيمها بمواد أخرى غير طبيعية. فكل لمسة من لمساتها الدافئة ترسو بنا داخل عواملها المتشعبة والمتصلة دائما وأبدا بذاتها، بروح التمرد فيها، وبصوتها المتردد بين البوح والتحفظ.
اما بين النشيج والنسيج يكمن الفارق، فارق ثلاث نقاط، ثلاث محطات فاصلة في حياة المبدعة. الأولى يفجعها الألم، والثانية يداعبها الحلم والثالثة يبدأ عبرها تحقق ذلك الفعل على أعقاب تجارب شخصية عاشتها المبدعة في وقت مضى، فأبى أن يفارق مخيلتها ليتحول بفعل الزمن إلى ميكانيزم حقيقي للخلق والابداع. وبين منسوجة وأخرى يتجلى موضع الألم بارزا ليشكل وضعا حياديا داخل فضاء التركيبة وحياة الفنانة، التي تحولت بفضله إلى مرحلة التكامل بالإبداع، كسلاح ضد الألم وكدافع لتغيير الفرد لوجوده على حد تعبير "ديفيد لوبرتون".
ترتسم معالم الألم النشيجي في هذا الفضاء التشكيلي من خلال حشرجة صوت السنين المثقل في الذاكرة التي تحلم وتتذكر وتلتفت بالتفاف الخيوط وتراكمها، تراكم الذكريات والسنين. صور العائلة في المنزل الكبير، دفئ الأم وهي تتوسد بطانتها الناصعة، نصاعة ونقاء أحلام صبا فاطمة... تتكدس كل هذه الصور بفعل الزمن وتطفو على السطح لكنها سرعان ما تندثر وتتحول إلى حفنة من غبار بفعل المقاومة والتصدي، فأي جسد فني هذا الذي يتحمل ويقاوم بالفن، ليحيا بأحلامه وآماله من أجل الفن...
تواصل الفنانة مراوغاتها للألم وسخرية القدر عبر ما تنتجه يداها وأناها من علامات رمزية ودلالات مفاهيمية متشعبة. فتسيرهما وفق حدسها الأنثوي، فتستحضر ما بقي في الذاكرة من صور العائلة، الاخوة والأحبة والحنين للحي القديم. في محاولات رثائية مفعمة بالانفعال والشجن الممتزج بالرضا. فتنزع عن العبانة ردائها الصوفي القديم وهالتها القدسية البيضاء فتزينها بخطوط الفرح والأمل في مشهدية معاصرة تتراقص في الألوان والأشكال وتتراكم فيها المواد الخيطية في تركيبة تشكيلية بصرية واحدة. تضفي على المشهد ثقلا مفهوميا وثراء أسلوبيا على مستوى اختيار الخامة والتقنية المعتمدة في أغلب التشكيلات النسيجية. أملا في إيجاد رابطا حقيقيا بين ما تبحث عنه نظريا وما تحاول ان تطبقه في منسوجاتها المعاصرة بعلامات ثقافية محلية ووفق مرجعيات غربية وعالمية.
تتظافر الخيوط والخطوط النسيجية في أغلب الأعمال اليدوية للفنانة وفق محاور دائرية وهندسية مختلفة، لترسم آفاق تجربة مختلفة الابعاد تعكس رغبة الفنانة في تجريب لعبة التشكيل الحر المنفتح على العديد من المفردات والعلامات والأشكال الهندسية على غرار الخط والدائرة وما تحيلنا عليه من فلسفات وجودية وروحية، جمالية معاصرة وشعور مختلف بالانتماء والانتشاء حد التخمر. وهو ما تصفه الفنانة بقولها في هذا السياق:
”. وكم كنت أهوى الدخول في ورطة بخيوط منحنية دائريّة” حدّ التكتّل. والدائرة بالنسبة لي في النسيج التشكيلي هي ليست شكلاً كما يراه الآخر بل إنّها قلب الرحى الذي يصنع لي دليلاً بصريّا يتكرّر بدون ملل”
وهو ما يفسر في الواقع اجتياح الشكل الكروي الدائري أغلب تكوينات فاطمة، ما يمنح الدائرة أيضا حضورا مرتبطا بالقدر والمصير وحتى الموروث الجمعي في رموزه المادية والحسّية كالموت والحياة، الخير والشر، وصولا للعيب والمسكوت عنه...
هي حقا رمز الأرض، والقمر والشمس، فهي الأبدية التي لا تحتوي على بداية أو نهاية، هي بناء رباني كوني يشعرنا جميعنا بالراحة ويجعلنا نبحث عن كينونتنا وأسرار وجودنا العبثي، في حركة تستمر بصريا، وتستفز وعينا الخاص وماهية إدراكنا للأشياء من حولنا.
فنشيج ليس مجرد صوت حشرجي رثائي لبقايا ذاكرة إنسانية أو تركيبة نسيجية جميلة معلقة على حائط في معرض فني، بل هو أعمق بكثير، هو صوت ذواتنا الأبدي، هو صوت الخلاص الإنساني المتعلق بين السماء والأرض...
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا