قصّة
خفقة حزن
يكتبها الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر
بسط كفّيه تحت ماء الحنفيّة العموميّة.. تلذّذ رؤية الماء يصافح بشرة الكفّ فيوقظ فيها الإحساس بجمال القرية وخيراتها.. خيرات ! كانت ! غطست في برك المياه ولم تخرج منها، لكنّه ظلّ ينتظر.
رفع كفّه ومدّ شفتيه مقلّدا حركة بعض الحيوانات التي تأتي كلّ شيء بالغريزة.. شرب.. سقا أوردته وعروقه وألياف حنجرته وما حول ذلك.. شبع.. مرّر كفّيه المبلّلتين على وجهه ورقبته وعنقه.
نظر إلى فوق واستأنف السّير كأنّه يصعد نحو السّماء.
ما الذي حدث خلال الزّمن الماضي! حدثت أشياء.. سرت خفقة غربية في المباني والطرقات والحقول والأجساد فتماهت معها كلّ الموجودات.. القرية وما فيها وما حولها، الأطراف البعيدة والقرى الأخرى والمدن.
أشياء عجيبة غمرت كيانه كأنّها أطياف أحلام.. هل يصدّق ما يرى في الأحلام ! تذكّر حين حفر في الذّاكرة كثيرا أنّه لمّا مرّ هذا الصّباح والشّتاء يلفّ كلّ شيء بردا قارسا أنّه شاهد علم روضة الشهاء منكّسا.
لا.. لا يمكن أن يحدث ذلك.. عاث في ذاكرته بحثا.. إحساس بالمرارة والحزن جعله يرى العلم منكّسا والواقع كذلك.. أفظع من الواقع علم متّسخ، نقط من الصّديد تشبه بقع زيت الشاحنات في خرقة معلّقة على لاقط سيّارة معطّبة.
ليس ذلك فقط، ولا فواصل حلم مزعج فقط، إنّه الواقع ولن يجادل في ذلك أحد.. تذكّر أنّ العلم الذي رسمت عليه نجمة وهلال بات يحمل ثقوبا في بشرة جسده.
كان لحظتها وهو واقف أمام حرم الرّوضة على وشك أن يقذف بأجزاء من معدته على الأرض لولا أنّه التقط أنفاسه، لولا أنّ وازعا أخلاقيّا أملى عليه ألاّ يدنّس حرمة المكان.
لكن.. لا يدري ما الذي حدث.. قبل أن يغادر المكان رفع رأسه وأغمض عينيه.. تصاعدت أنفاسه لهاثا، أشاح بوجهه، بنظره، برقبته، بقامته، وهمّ بالسّير.. طغى عليه إحساس بوخز مسامير حادّة في صدره، بين كتفيه، في رقبته، في جبينه، تلك الجبين التي طالما رفعها كاللاّفتة وهو يتنقّل في أرجاء القرية.
ما الذي حدث! تذكّر أنّ رافعة العلم التي كانت دائما عالية متعالية والعلم في الأعلى ترفرفه الرّيح قد قصرت، تقاصرت حتى التصق نسيج العلم بحاشية السّور.
******
ابتعد عن الحنفيّة أمتارا قليلة.. شعر بدوّار حادّ.. حرّك قدميه متعثّرا نحو الحنفيّة من جديد وبسط كفّه للماء المتلألئ المشعّ الممتزجة حبيباته بأشعّة شمس النّهار متحدّية صقيع الشتاء.
الشتاء يجثم بكلّ مساوئه ومحاسنه على رؤوس الأشجار الجرداء وعلى حافات المباني وعلى أطياف المارّة وعلى الملابس الصوفيّة والقطنيّة وعلى الطرابيش والقبّعات والأحذية الغليظة.
الشّتاء ينزل من فوق فيلفّ كلّ شيء، والحزن متحدّيا يتصاعد من محيط الأمكنة، من حرم الرّوضة والمسجد الجامع والحنفيّة والوادي وفضاء السّوق الأسبوعيّة.. يتصاعد أنفاسا حارّة دافئة منتظمة متماهية مع محيط الأرض والسماء.
سار كأنّه يعدّ خطواته على الإسفلت، كأنّه يحسب المسافة بين الحنفيّة والمقهى، كأنّه يتشمّم الرّائحة الآتية من دكّان الفطائر.
توقّف عند رؤوسهم، أربعة يلاعبون الورق ويلاعبهم، لم يحسّوا به إلاّ كظلّ سحابة عابرة صافح الوجوه الأربعة واختفى.
أربعة منهمكون حتى نبض العروق، يرفعون أيديهم إلى فوق، إلى أعلى قدر ممكن ثمّ يرمون بالورق فيحدث أزيزا على البساط.. بساط من أعواد الحلفاء الخضراء.. لا أحد منهم تفطّن إليه.. عضّ شفته السفلى.. وضع يده على كتف أضخمهم جثّة.. ضغط بالأصابع بقوّة على الكتف السّمينة إلى أن تلوّى اللاّعب وزاغ قليلا.. عين حمراء متلألئة تشتدّ احمرارا كلّما ازداد ضغط الأصابع.
توقّف اللاّعبون عن اللّعب.. صمت مريب.. دهشة وانفعال وتساؤل.
- سارق، أقسم بالله إنّك لسارق.. لو لم تكن سارقا متحيّلا كذّابا منافقا لما عظمت هكذا هذه الجثّة، لما سمنت حتى فاضت، حتى أفرزت رائحة عفنة.
ضحك وقهقهات، بريق في العيون، دموع على الخدود.
تململ اللاّعب وأخذ يلوي قدميه تحت مؤخّرته، يغرز ركبتيه في البساط الأحرش المزيّن بخطوط سوداء توازيه خطوط حمراء شعشاعة.. استيقظت روح القتال في كامل جسده.
لكنّ الزّائر غادر المكان.
توقّف بعيدا عن الدكّان والتفت نحو الحنفيّة، أحسّ بجفاف في حلقه، همّ بأن يواصل السّير.. همّ بالعودة إلى الحنفيّة.. همّ بأن يفكّر.. همّ بأن لا يفكّر.
رآها قادمة، ملتفّة في لحافها الأبيض النّاصع، معتدلة القوام، رشيقة.. لمّا اقتربت منه فتحت طرفي اللّحاف كما يبسط طائر الماء جناحيه.. صدر ناهد في حماية قميص مزركش.
التقى النّظر بالنّظر.. ابتسامة ورديّة.. هزّ كتفيه.
- لأنت والله مومس.
صفعته بقوّة، لفّت صدرها باللحاف الأبيض النّاصع.
- لأنت والله حشرة.
ابتعدت.. تعالى في المكان كالنّخلة.. صافح بنظره الغيوم البيضاء العابرة.
" هل أستطيع أن أتّهم هذه الغيمات بسوء ! كم تغيّرت أشياء داخل القرية وقد كانت قطعة من جنّة الفردوس.. الآن فسدت الأحوال.
حنحن بقوّة فالتقطت آذان المارّة صوت الحنحنة فالتفتوا ولم يتوقّفوا عن السّير.
على حاشية الطّريق سيّارة سوداء متوقّفة، يد ممتدّة من فوق بلّور الباب.. إشارات بظاهر الكفّ وبباطنها وبالسّبابة وبالإبهام وبالأصابع الخمسة.. تنقبض الأصابع فتبدو متشنّجة وتنبسط فتشرق من خلالها بارقة أمل.. مسؤول مارّ على عجل أوداجه منتفخة، وجنتاه حمروان كوجنتي عجوز ملطّختين بالدهون الثقيلة المتخثّرة.
شبّان وشابّات منحنية رؤوسهم على باب السيّارة متعلّقة عيونهم باليد المتحرّكة عرضا وطولا، إلى أعلى وإلى أسفل.
استمع الزّائر بانتباه إلى عبارات منمّقة مقتناة من قواميس الأدب القديم ومن فنّ السياسة، وإلى تراكيب هجينة ممجّة ممّا يردّد أقطاب الأحزاب والجمعيّات أمام الأغبياء.
دفع بنفسه بين الشبّان والشّابات.. دقّق النظر.. أمسك باليد الممدودة في الفضاء الخارجيّ لباب السيّارة.
- كذّاب، منافق، سمسار، متحيّل.
جذب يده بعنف، رفع البلّور وانطلق هاربا بالسيّارة وهي تعوي في الطّريق الرّئيسيّة بين أطياف المارّة.
التفّ قطيع الشباب والشابّات حوله، وجّهوا إليه قذائف حارقة مهينة من سباب وشتائم.. ألم يحجب عنهم بصيص الضّوء الذي لاح لهم من خلال اليد الممدودة.. بصقوا في وجهه وتفرّقوا.
ظلّ واقفا في المكان.. تعالى ثمّ تعالى كهامة نخلة.
استدار.. قادته قدماه نحو الحنفيّة من جديد.. تيبّس حلقه فأحسّ به كورقة مصنوعة من عجين الحلفاء لا يستطيع بلعها ولا الاحتفاظ بها.. ورقة من البساط الذي يتربّع فوقه لاعبو الورق.
رشّ الماء على وجهه، بلّل رقبته وعنقه.. أمامه على عرض المدى وطوله، جفّت المراعي واصفرّت أوراق البساتين، وعند حاشية الأفق شريط سحاب خفيف أحمر في لون دم مراق على الأرض، دم بهتت حمرته وتجمّد.
تابع بالنّظر موكب جنازة خارجة من المسجد الجامع، متّجهة نحو المقبرة.. ملأ حفنته بالماء وازدرده مثلما يفعل الجمل.. صفير بين الشفتين وقرقرة في الحلق.
انتعش جسده.
سار وراء الموكب.. لم يتقدّم ولم يتأخّر.. أطياف من أهل القرية يسرعون من حوله ليشاركوا في رفع التابوت على أكتافهم طلبا للثواب والرّحمة.
" مات.. رحمة الله عليه.
" صارع الكوفيد مثل الأسد لكنّ قواه خارت فأغمض عينيه.
" إنّه الأجل المحتوم.
" الكوفيد كلب بن كلب، حراميّ، غدّار، متوحّش، إذا غرز أنيابه السامّة في الكبد، في الرّئتين، في الحلق أزهق الرّوح."
انقضّ على آخر المتكلّمين وأمسك بخناقه.
- تكذب، وأنت تعلم أنّك تكذب، والكلّ يعلم ذلك أن لا شأن للكوفيد إنّما القهر، قهر الرّجال.. الرّجل مات قهرا كمدا وحزنا.
تململ الرّجل ليخفّف من وطأة القبضة الحديديّة، برزت حدقتا عيناه وتحجّرتا.. تشابكت حولهما الأيدي والأرجل والرّؤوس.. حالوا بينهما.
ابتعد موكب الجنازة وتلاشت الأطياف وراء الموكب.
عاد متمهّلا باتّجاه الحنفيّة دون أن يدركها.. الشارع العريض الطويل يملأ نفسه قرفا.. تكثّفت الأحاسيس المبهمة ثمّ تبعثرت.. أين يجد هذا الوباء ! كيف يصطاده، كيف يلتقطه، بأيّ شباك، بأيّ مصيدة !سيلتقطه في أنفاس كلّ من يسعل بجانبه، سيتشمّم عرق المصابين بالحمّى، سيشرب في أوانيهم، سيلغ في بقايا ما يتركون على الموائد.. أين هو وباء الكوفيد.. على بساط الأرض في سفوح الجبال في مجاري الأودية في طبقات السحب العالية.
ضرب في فضاء الأزقّة، في ساحة المستشفى، غاصت أصابعه في الحاويات.. مشى هنا وهناك.
*****
سدّت الطريق أمامه.. إنّها البلاء الأزرق.. فتّحت طرفي اللّحاف الأبيض النّاصع كما يفتح طائر الماء جناحيه، شاهد صدرها بارزا، التقط أنفاسه.. تأوّه متلذّذا، ثمّ تأوّه متلذّذا أكثر، صفعته بقوّة، لم يستوعب الحدث، لماذا صفعته وانصرفت.. تأوّه متألّما، ثمّ تأوّه متلذّذا.
أغمض عينيه ثمّ فتحهما، بين الحركتين الثقيلتين شاهد العلم منكّسا وحواشيه متّسخة وبعض الثقوب هنا وهناك.. التوت خرقة القماش فاختفت النجمة والهلال وبهت الأبيض والأحمر.
كان مغرّبا فدفعت به قدماه نحو الشرق.. كان مشرّقا فدفعت به قدماه نحو الغرب.. لا يدري هل انعدمت الرّؤية أو جاس الظلام الحالك في رحاب القرية.
لا.. إنّه الكوفيد.. لا أبدا لا يمكن أن يكون كذلك.. إنّه شيء آخر أكبر من الكوفيد وأشدّ فتكا.. إنّه القهر، قهر الرّجال.
انتهت القصّة
عبد القادر بن الحاج نصر
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا