تراب الوطن // قصة للاطفال بقلم ميزوني البناني تراب الوطن // قصة للاطفال بقلم ميزوني البناني

تراب الوطن // قصة للاطفال بقلم ميزوني البناني

 

قصة للاطفال 
بقلم الكاتب التونسي
ميزوني البناني
رسوم خليل خليلو . المغرب




         

    تُحبّ "ورْدةُ" وطنَها "تُونِسَ" أكثرَ مِن نَفْسِها، تُحِبّهُ حُبًّا يَنْمو فِي قَلْبِها كُلَّ يوْمٍ كَما يَنْمو اُلْعُشبُ والشَّجرُ فِي اُلحدائِقِ والغاباتِ. وكانت تُحِبُّ عَلم البِلادِ، وتَقولُ فِي نفْسِها: 

   " كَم أنتَ رائِعٌ يا علمَ بِلادِي! أحْمرُ بلونِ دِماءِ الشُّهداءِ الّذين حرَّرُوا الُوطنَ، وفي وسطِك قُرْصٌ أبيضُ للسّلامِ، فيه نجْمٌ خُماسيٌّ أحْمرُ لِقواعدِ الإسلامِ الخَمسِ، يُحيطُ بِه هِلالٌ أحْمرُ يغنّي: أنا عربيٌّ ابنُ العُروبةِ والإسلامِ." 

 أمّا عِندما تَرى "وردةُ" العلمَ يُرَفرِفُ عالِيًا، فِي السّاحاتِ، وفوْق سُطوحِ المبانِي، فإنّ دقّاتِ قلبِها تَتسارَعُ، ودِماءَها تَتراقَص فِي عُروقِها، وتَجِدُ نفْسَها تُردِّدُ نَشيدَ الوَطنِ، قائِلةً، فِي نفسِها: "حُماةَ الْحِمَى، يَا حُماةَ اُلْحِمَى.. هلُمّوا هلُمّوا لِمَجْدِ الزّمن.." 

   وذاتَ يوْمٍ، قرَّرَ والِداها مُغادَرةَ الْوَطنِ لِلْعمَلِ فِي مَدينَةِ " نِيسْ" بِـ: "فِرَنْسا" لِفتْرَةٍ تدومُ سنواتٍ طويلةٍ. حزِنتْ "ورْدةُ" لِأنَّها لَمْ تَكنْ تَتَوقّع أنْ يأتِيَ يومٌ تَضطرُّ فِيهِ لِلْعيشِ، سنواتٍ، خارِجَ بِلادِها. 

   ويوْمَ السّفَرِ، قصَدتْ مَع والِديْها المَطارَ، وعِندَما وَقفتْ أمامَ عَوْنِ الجَمارِكِ، سألَها قائِلاً:

    - ماذا تَحمِلين فِي هذا الكِيسِ ؟

    أجابتْهُ "ورْدةُ" بِدونِ أنْ تلتفِتَ إلَى وَالِديْها: 

    - أحمِلُ قليلا مِن تُرابِ الْوطنِ لِيُخفِّفَ عنِّي، فِي فِرنْسا، الشُّعورَ بِالغُرْبةِ.

    أجابَها مُبتسِمًا:

    - لَكنّ ذلِكَ يَحتاجُ إلَى الْحُصولِ عَلَى تَرْخِيصِ سَفَرٍ..

    أجابَتْهُ بِشجاعَةٍ:

   - وهَلْ حُبُّ الوَطنِ يَحْتاجُ إلَى إِذْنٍ أوْ رُخْصةٍ؟   

    لَم يَجِدِ العوْنُ كلماتٍ لِلرّدِّ عليْها، فاُكْتفَي بِرَفْعِ يَدَه تَحِيّةً لِتُرابِ الوَطنِ الْعزيزِ، سامِحًا لَها بِالمرورِ مَع والِديْها بِالكيسِ.

    وفِي بِلادِ الغُرْبةِ، اكْتَرَى الوالِدانِ مَنْزِلاً يضُمُّ حَديقَةً صغيرةً، ومِنْ نافِذةِ غُرفتِها رأتْ "ورْدةُ" فِي تلكَ الحديقةِ بعْضَ الأشْجارِ والنّباتاتِ، فَتذكّرتْ شَجرَ البُرْتقالِ والرُّمّانِ وكرومَ العِنبِ في شمالِ الوطنِ، وكرومَ الصّبّارِ واللّوزِ والتّفّاحِ والتّين والزّيتونِ فِي الوَسطِ، وشَجرَ النّخيلِ فِي الجَنوب، فَشَعرت بالغُرْبةِ والوَحْشةِ تَدُبّانِ في عُروقِها.

   واُسْألُوا "ورْدةَ" كيْفَ قضّتْ ليْلتَها الأُولَى خارِجَ الوَطنِ؟  

   لَقدْ تذكّرَتْ ذلِك الكيسَ العزيزَ، فَراحَتْ تَغمِسُ يَديْها فِيه تَتلمَّسُ التُّرابَ اللّيّْنَ، وتفرُكُه بِأصابِعِها، وتَستنْشِقُ رائِحتَه الزّكيَّةَ، شوْقًا إلى الوَطنِ، و فجأةً خطرتْ لها فِكْرةٌ جميلةٌ، فأخذَتْ مِن الْكيسِ قليلاً مِن التُّرابِ الّذِي رأتْه رائِعًا، لا يُشْبِه تُرابَ أيَّ بِلادٍ أُخْرى، وبَعْد أنْ لَثَمتْهُ بِشوْقٍ وحُبٍّ، دَسّتْهُ تحْتَ وِسادَتِها، ثُمّ تَوَسَّدتْها  فأحَسّتْ كأنَّها تَضَعُ رَأسَها علَى أرْضِ "تُونِسَ"، لِذلِك  نامَتْ نَومَةً هانِئةً، وفِي نوِمِها رأتْ نفْسَها طائِرًا يَجُوبُ سَماءَ الوطنِ مِن الجنوبِ إلى الشَّمالِ، ومِن الشّرْقِ إلى الغرْبِ، يُغرِّدُ مُستَمتِعًا بِمناظِرِ البَحْرِ والغاباتِ والسُّهولِ والجبالِ والصّحراءِ، وهِي تَظهَرُ مِن الجوِّ مِثلَ زَرابٍ مَفروشةٍ في يوْم فرَحٍ.

   وَ فِي الصّباحِ، وقبْلَ أنْ تَتوجَّهَ مع أبِيها إلَى الْمَدْرسةِ الْجديدَةِ، وضَعتْ حَفْنَةً مِن ذلِك التُّرابِ فِي جيْبِ مِيدَعَتِها، وفِي قاعَةِ الدَّرْسِ، بَدأ الأطفالُ يَتشمَّمونَ رائِحةً طيِّبَةً كانَتْ تَفوحُ مِن لِباسِها، سائِلينَ إِيّاها بِهَمْسٍ:

- مَا اُسْمُ هذا العِطْرِ الذّكيِّ؟ ومِن أيِّ مَحلِّ عُطوراتٍ اقْتَنَيْتِهِ؟ 

أجَابتْهُم مُتلَمِّسةً جيبَها، وفِي عيْنيْها تَتَرقْرَقُ دُموعُ الشّوقِ والفَخْرِ:

-  عِطرٌ طبيعيٌّ ليْسَ لِلْبيْع أوِ المُبادَلَةِ.. إنِّهُ عِطْرُ تُرابِ وطنِي الغالِي تُونِسَ الخَضراءِ.

   ومُنْذُ ذلك اليومِ، صَارَ أتْرابُها يَتنافَسونَ فِي اُلْجُلوسِ بِجانِبِها لِلاِسْتِمتاعِ بِرائِحةِ تُرابِ وَطنِهَا.

   ومرّتِ الأيّامُ، والبِنتُ تُداوِي مَشاعِرَ الْغُرْبةِ والوَحْشَةِ بِتُرابِ الوَطنِ. وذاتَ مَرّةٍ، وبيْنما كانتْ تلْعبُ فِي الْحديقةِ إذْ خَطر لهَا أنْ تَحْفِرَ حُفْرَةً، وتَمْلأَها بِتُرابِ تُونِسَ، وتَغْرِسَ فيها عُودُ شجرَةِ بُرتُقالٍ. ولَم ينْتَهِ اليَومُ حتّى سَاعَدَها وَالِداها عَلى تَحْويلِ الفِكرَةِ إِلَى حَقيقةٍ، فَغَمرَتْ الْحدِيقةَ رائِحةُ عِطْرٍ جميلٍ هِي رائِحةُ الوَطنِ الأخْضرِ، تَفُوحُ مِن التُّرابِ..

   تِلْكَ الشّجرَةُ، كَبِرتْ بَعدَ عامٍ وبعْضِ الأشهُرِ، ونَبتَتْ لَها أوْراقٌ شكلُها لا يُشبِهُ شَكْلَ أوْراقِ البُرتُقالِ؛ تأمّلتْها البِنْتُ مع والِدَيْها، وبَعْد قليلٍ، تَأكّدُوا جَميعًا أنَّ شَكلَها إنِّما هُو شكْلُ خارِطةِ تُونِسَ، تَقِفُ رَأْسُها وذِراعُها وصَدْرُها وبَطنُها فِي البَحْرِ الأبْيضِ اُلْمُتوسِّطِ، وساقُها مَغْموسَةٌ في رَمْلِ الصّحْراءِ الذَّهَبِيِّ. واُزْدادَ تَعلُّقُ العائِلةِ بِتلك الشَّجَرَةِ، عِنْدَما أثْمَرَتْ، فِي عامِها الثّالثِ بُرْتُقالاً طعْمُه لَذيذٌ تَمامًا كَطعْمِ بُرْتُقالِ "تُونِسَ".

   وعِنْدَما اُنْتَشرَ خَبَرُ الشَّجَرةِ، فِي مَدينَةِ "نِيسْ" بيْنَ المُغترِبينَ مِنْ أبْناءِ "تُونِسَ"، أخذ الكثيرُون مِنهم يَزُورون تِلك الشَّجرةَ التي تُشْبِهُ الوَطنَ، وفِي إِحْدَى الزّياراتِ، قَطعتْ إِحْدى النِّساءِ غُصْنا أخْضَرَ مِن أغْصانِها، لِتَغْرِسَه، بَعْد ذلِك، فِي حَديقةِ مَنزِلِها، مُنْتظِرَةً أنْ يَتحوّلَ ذاتَ يوْمٍ إلى شجرةٍ كَشجرَةِ "وردة".    وَبَعْد شُهورٍ مِن النُّمُوِّ، تَحوّلَ ذلك الغُصنُ إلَى شَجرةٍ صغيرةٍ، لَكنّها بأوراقٍ لاَ يُشبِهُ شَكلُها شَكْلَ أورَاقِ شَجرَةِ "وَرْدة"، وبِثِمارٍ ليْستْ لها طَعْمُ بُرْتقالِها.

   تعجّبتِ الْمرْأةُ مِمّا حَصلَ، فَقَصدتْ مَنْزِلَ "وَردَةَ" لِتَسْألَ البِنتَ وَواِلدَيْها قائِلَةً بِدَهشةٍ واُستغرابٍ:

   - لاَ أفْهمُ لِماذَا لمْ تُنْبِتْ شَجرَتِي أوْراقًا كأوْراقِ شَجَرَتِك شَكْلُها كَشَكْلِ خارِطةِ الوَطنِ؟

    أَجابَتْها الطِّفلةُ بِبساطَةٍ ودُونَ عناءٍ، وهِي تَتلَمّسُ حُبيباتِ التُّرابِ فِي جَيْبِها:     - لِأنّك غَرَستِها فِي تُرابٍ آخَرَ غَيرِ تُرابِ الوَطَنِ. 

   نظرت المَرْأةُ إلى "وَرْدةَ" ثُمّ إلى والِدَيْها نَظراتِ التَّعجُّبِ مُردِّدةً:

   " نَعمْ. يَنْقُصُها تُرابُ الوَطنِ.. كَيْفَ غَفَلْتُ عَنْ هَذا، مُنْذُ البِدايَةِ؟"

 


  



التعليقات

سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا

أحدث أقدم

إعلانات

إعلانات