محمد الهادي حاجي يكتب لكم
التنمية الجهوية والدولة في تونس:
إن فكرة التنمية الجهوية جاءت من منطلق وطني بعد ما كانت أولويات النخبة السياسية بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال والقضاء على كل ما هو سلطة موازية للدولة ومركزيتها بما في ذلك الأسرة والعرش والقبيلة والجهة كسلط تقليدية وما تمثله من سلط تشكل خطرا على الدّولة الناشئة. يعتبر مفهوم التنمية الجهوية مفهوما معاصرا وليد منتصف القرن العشرين، ومنذ بداية الثمانينات أصبح هذا التوجه يستقطب اهتماما متزايدا ليس فقط في تونس بل بمختلف بقاع العالم، كإطار ملائم لبلورة استراتيجية بديلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والمحلية، تقوم على تعبئة الموارد والطاقات الجهوية والمحلية من أجل تطوير البناء الجهوي، وهو تصور يعتبر التنمية الجهوية إطارا ملائما للمساهمة في بلورة الاستراتيجية التنموية الجديدة. حيث أن سياسة الجهة كتنظيم إداري سياسي، تبنتها ألمانيا في دستور 1949 وإيطاليا في دستور 1948 وإسبانيا في دستور 1978، وجعلت من الجهة العنصر الأساسي في التنمية، وإحدى خيارات الدولة الحديثة، لذلك تسعى عديد الدول لرفع شعار الجهوية وتقديم اجتهادات في سياق تطوير وتنمية هذا الاختيار، فالدولة لم يعد بإمكانها اليوم الاعتماد الإداري المركزي بل أصبحت تعمد إلى توزيع السلطات بين المركز والمحيط، من خلال توزيع المهام والصلاحيات للوصول إلى نمط إداري وممارسة سياسة أفضل تحقق التوزيع العادل للثروة. ويعتبر هذا التوجه للتنمية المحلية رهانا تقوم عليه السياسات التنموية في ظل التغييرات العميقة والسريعة سواء على المستوى العالمي أو على المستوى الوطني، وقد تبنت المنظمات الغير حكومية هذا التوجه التنموي منذ أكثر من عقدين. ممّا يكرس أهميته من خلال البرامج الذاتية وتركيز السكان في مناطقهم الأصلية، وتضامنهم للارتقاء بمجتمعهم المحلّي وذلك باستقطاب كل القوى البشرية والفنية من أبناء المجتمع واستغلالها في البرامج التنموية المخططة التي تهدف إلى إدماج المناطق الفقيرة والمعزولة لتحقيق العدالة في توزيع الخدمات والثروة الاجتماعية بحسب المجتمع المحلي واحتياجاته مع مراعاة خصوصية هذا المجتمع ويمكن القول في هذا السياق أن التضامن يمثل أهم ركائز هذه الجهوية إذ لا ينبغي اختزال هذه الأخيرة في مجرد توزيع الثروة والسلطات بين المركز والجهة، فالتنمية الجهوية لن تكون متوازنة وذات طابع وطني إلا إذا قامت على تلازم استثمار كل جهة لمواردها ومؤهلاتها، على الوجه الأفضل والأمثل، مع إيجاد الآليات الناجعة للتضامن، التي تجسد التكامل والتلاحم بين المناطق في تونس موحدة. فهو ترجمة (التضامن) لسياسة إعداد التراب الوطني، فهي ليست تقنية فحسب وإنما هي سياسة تهدف إلى بلوغ التوزيع المتوازن للنشاطات الاقتصادية والاجتماعية، وينتفع بها كل سكان المدن والأرياف ممّا يكرّس ما يسميه "بونسي" (J.F. Poncet)، "بالديمقراطية الترابية" المتركزة على فكرة المواطن والمجموعة البشرية التي ينتمي إليها، وبالتالي إلزام الدولة بإقامة سياسات لتحقيق تنظيم مجالي مناسب لهذا الحق تسمح للفرد بالحياة الكريمة. ويمكن القول بأن التنمية الجهوية هدفها تقريب الخدمات وتوفيرها وتنشيط الحياة الجهوية على تعدد جوانبها وإدماجها في الحياة الوطنية، وهي مقاربة تسعى لإيجاد الحلول الممكنة من خلال التنسيق بين مختلف القوى الجهوية المتدخلة لتجاوز جملة الإشكاليات العالقة والتي طرحتها مقاربة الفاعل السياسي التنموي (الدولة). ويعكس هذا التوجه الجديد تجاوز العلاقة التقليدية، بين الدولة والمجتمع التي كانت تعتمد الإسقاط والنمطية والتعسف. أن الظروف الداخلية والخارجية التي تعرفها تونس تستلزم إيجاد الأساليب الحديثة والكفيلة بخلق إقلاع تنموي شامل، وهو أمر يحتاج إلى إعطاء المكانة الأكبر للجهة، وتدعيم اللامركزية المحلية بهدف الوصول للأهداف المأمولة وهو ما يحتم إصلاحاً جوهرياًّ للنظام الجهوي، وذلك بتمكينه من الأدوات والإمكانات التي تخوله النجاعة في التدخل الاقتصادي والاجتماعي، وهو لا يتم إلا بوضع استراتيجية متكاملة لهذا النظام الجهوي من خلال عديد المستويات كالسياسي الدستوري والقانون التنظيمي والإداري البشري والمالي والاقتصادي، بعيدا عن الحلول الظرفية وسياسة الهبات والإعانات، ولا تقف التنمية على تحسين ظروف العيش أو بعث بعض المرافق كالمدارس ومراكز الصحة أو المسالك الريفية أو التنوير أومدّ الماء، هذا الجانب الاجتماعي طبع جلّ البرامج التنموية التي تهدف إلى التنمية كالتنمية الريفية أو الريفية المندمجة أو البرامج الجهويةُ، وهي تمثل خليطا من البرامج، تتميز بالتشتت التقني والمجالي، ولا تتكامل في ما بينها، وهذا الجانب الاجتماعي المهيمن ساهم فقط في تدعيم عقلية التواكل والإعالة والسلبية، وهي عناصر تكبّل الفاعلين ولا تحقق التنمية الحقيقية كما يتصورونها، فالتنمية هي إذا تخضع لتمثل ورؤية وتصوريستمد قوته من ديناميكية اجتماعية داخلية تنبع من فاعلين محليين (اجتماعيين، اقتصاديين، ثقافيين، وسياسيين) لهم صلة وثيقة بالجهة بحكم الانتماء والهوية والاستشراف المستقبلي والمصلحة كذلك. هؤلاء الفاعلون المحليون قادرون على النهوض بالجهة من حيث هي إمكانيات يجب استغلالها وإطار عيش وجب تحسينه وانتماء ترابي يُؤسس للهوية ويحتم تلميع صورتها لتكون منطقة جذب السكان والإطارات والمستثمرين بدءًا بأصيلي المنطقة وليس منطقة تنفير لا تستطيع حتى شد سكانها لعدم توفر الشغل. فلا وجود لتنمية جهوية أو محلية دون وجود فاعلين جهويين أو محليين يأخذون على عاتقهم عملية التنمية بالإضافة طبعا إلى الفاعلين الخارجيين سواء كانوا من الوطن أو من خارجه وتدخل الدولة التي تعتبر من أهم الفاعلين مهما كان النظام السياسي والاقتصادي المتبع، وذلك لمساعدة الفاعلين المحليين على الإنتاج والإابداع والتعبير عن مشاريعهم و استثماراتهم لأن الجهة كمفهوم تنبني على أساس معايير موحدة ومتكاملة تشكلها المعطيات البشرية والتاريخية والطبيعية، تعبّر عن خصوصية المجال الترابي وتعبّر عن هوية سوسيو- تاريخية ثقافية تميزها عن بقية المناطق والجهات وبذلك يتحرر مفهوم التنمية من النظرة الأحادية الاقتصادية الضيقة لما هو أرحب وأشمل ينطلق في قوته من الفاعل الاجتماعي إلى الفاعل السياسي للدولة ثم ينفتح على الفاعل الدولي وهؤلاء الفاعلين هم بالضرورة حسب هذا المفهوم في انسجام في شكل نسق متكامل الأبعاد
. محمد الهادي حاجي – باحث في علم الاجتماع
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا