عالم ما بعد العولمة و اقتصاد ما بعد القطب الأوحد
د.أحمد القديدي
العلاقة الجدلية بين قيمة أية عملة نقدية و بين قوة أو ضعف الدولة التي تملكها هي علاقة قديمة و مؤكدة و إذا قيمنا الدولار أو اليورو مثلا بهذا المعيار الذي لا يخطأ و نحن في أواسط سنة 2022 سندرك أن العملتين الأقوى منذ عقدين تتراوحان صعودا و هبوطا بالتوازي مع تصارع القوتين: الولايات المتحدة و الإتحاد الأوروبي...قبل أن تدخل العملتان الصينية و الروسية في السباق تماما و في نفس الوقت مع يقظة العملاقين القادمين بغاية إحتلال مكانيهما و عدم إخلاء العالم للقطب الأمريكي الذي انتهى إلى الإيمان بأنه الأوحد و أن العالم أصبح أحادي القطبية بلا منازع جدي! و هنا يمكن تفسير الحرب الروسية الأوكرانية على أنها الخيار الروسي الأخير حتى تتوقف واشنطن عما يسميه بوتين (الإستفزاز الخطير و الخطر الداهم و انتصار الفاشيين و الإرهابيين المؤقت و المرفوض في كييف) و لا يفيد أن نتساءل نحن الملاحظين: هل أخطأ بايدن أم أصاب و لا هل أخطأ بوتين أو أصاب؟ فنحن في عالم ما بعد العولمة كما قال الدبلوماسي العجوز الداهية هنري كيسنجر (لقناة سي إن إن) معيدا نظرية الفيلسوف ها برماس. ولكي نفهم ما بعد العولمة نقول إن تاريخ العلاقات الدولية أخذ منعرجا جديدا وغير مسبوق وتتمثل خطوطه الكبرى في البحث عن القوة والتفوق عوض البحث عن السلام و الانخراط في سباق القوة (عسكرية و اقتصادية و جيوستراتيجية و ثقافية) لفرض المصالح الوطنية و عدم الذوبان التدريجي في قوة أخرى معادية بالضرورة! وحين نقول قوة اقتصادية نعني أنها تعتمد العملة الأقوى والأكثر تداولا في التجارة العالمية وهنا نسوق تحليلا للكاتب الخبير في الاقتصاد العالمي (روتشير شارما) على صحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية الأشهر عالميا منذ أيام قليلة تناول فيه مستقبل الدولار في ظل التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي خلال الفترة الحالية والمقبلة. وذكر الكاتب أنه "مع ارتفاع الدولار إلى مستويات قياسية هذا الشهر فإننا لم نشهد مثيلا لذلك منذ ما يقرب من 20 عامًا، فقد استند المحللون على حجة قديمة وهي أنه لا يوجد بديل للتنبؤ بمزيد من المكاسب للعملة القوية". وتحدث شارما عما وصفه بـ"عالم ما بعد الدولار"، قائلا إن "قيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية الأخرى تزيد الآن بنسبة 20 % عن اتجاهها طويل الأجل، وتتجاوز الذروة التي وصلت إليها عام 2001". واستدرك بأن "الاختلالات الأساسية لا تبشر بالخير لمستقبل الدولار، ومن ذلك فإن عجز الحساب الجاري للولايات المتحدة يقترب من عتبة الـ5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وأن الولايات المتحدة تدين للعالم حاليًا بمبلغ صاف قدره 18 تريليون دولار، أو 73 % من ناتجها المحلي الإجمالي وهو ما يتجاوز بكثير عتبة الـ50 %، التي مهدت غالبًا الطريق لأزمات العملة السابقة". وأضاف أن "الدولار تعزز بسبب ضعف العملات المنافسة، ومع ذلك فإن منافسيه يكسبون قوة الآن" فإلى جانب العملات الأربع الكبرى - للولايات المتحدة وأوروبا واليابان وبريطانيا - تكمن فئة العملات الأخرى، التي تشمل الدولار الكندي والأسترالي والفرنك السويسري". وأشار شارما إلى أن العملات هذه كانت تمثل 2 % فقط من الاحتياطيات العالمية في 2001، بينما تمثل اليوم نحو 10 %. وتابع بأن العقوبات الأمريكية المسلطة على روسيا أظهرت دور الولايات المتحدة في عالم يحركه الدولار وهو ما يلهم العديد من البلدان للإسراع في البحث عن خيارات فعلى سبيل المثال تعمل أكبر اقتصادات جنوب شرق آسيا على تسوية المدفوعات لبعضها البعض بشكل مباشر، متجنبة الدولار. وماليزيا وسنغافورة من بين الدول التي تقوم بترتيبات مماثلة مع الصين أما اليابان فقد أسرعت إلى تنظيم قمة تجارية تشاركية بينها و بين القارة الإفريقية (مؤتمر تيغاد 8 في تونس منذ أسبوع) وختم الكاتب مؤكدا على استنتاجه بأنه "يجب ألا ننخدع بالدولار القوي لأن عالم ما بعد الدولار قادم" و هنا أعلق شخصيا على نظرية الكاتب شارما لأقول: "هذا الإستنتاج سابق لأوانه تاريخيا لأنه وليد اللحظة الراهنة في الظروف السياسية و العسكرية الحالية لعام 2022 وهي ظروف طارئة و متحولة فتحليله صحيح (أقصد التشخيص) لكنه ينتهي إلى استنتاج خطأ فالولايات المتحدة لديها عقيدة سياسية ثابتة مهما كان الحزب الحاكم و مهما كان الرئيس و هي عقيدة التوسع في مناطق نفوذها و تأثيرها و أهم هذه المناطق تقليديا نجد أوروبا التي لا تعيش إلا تحت الغطاء النووي الأمريكي و تذكرون حين شعر الرئيس بايدن أن بعض دولها تنفتح تدريجيا نحو روسيا و الصين غيرت من استراتيجيتها الأوروبية (تذكرون انتزاع صفقة الغواصات الأسترالية من فرنسا السنة الماضية!) وهو ما أحدث خللا في العلاقات الأمريكية الفرنسية مع دعوة السفيرين للتشاور! لكن في النهاية تم طي الملف بسرعة من قبل باريس و لعل ذلك الدرس نفع كل القادة الأوروبيين فلم يتضامنوا مع باريس و مروا كأن شيئا لم يكن!
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا