بين قلبين قصة مشاركة في المسايقة بقلم ذكرى كشباطي بين قلبين قصة مشاركة في المسايقة بقلم ذكرى كشباطي

بين قلبين قصة مشاركة في المسايقة بقلم ذكرى كشباطي

بين قلبين

قصة مشاركة في المسايقة

بقلم ذكرى كشباطي





 فيروس لعين يسمّى ب"كوفيد١٩" ، هبّ على البلد كريح صرصر، يدوي فيفتكّ بالكبار والصّغار، النّساء والرّجال; غرف المستشفيات مزدحمة لآخرها ولم تعد تستوعب المزيد. المصابون بالآلاف، إيطاليّون وغير إيطاليّين. لم يهمّنا عرق ولا لون ولا دين، الكلّ يعمل كدبيب النّمل، الْتَوَتْ الأعناق وتكلّست الظّهور ولم نيأس. نقول:"غدا سيكون أفضل"، يأتي الغد و لا يكون أفضل! القلوب تعتصر ألما. لم نقصّر! اللّه شاهد أنّي لم أقصّر البتّة! "إيمان البجاوي" ، هذا اسمي، طبيبة أمراض صدريّة وحساسيّة بمستشفى "كريمونا" بشمال إيطاليا، عمري ثلاثون سنة، تونسيّة واحمل الجنسيّة الإيطالية أصلٌ لا أدري عنه شيئا سوى بعض المشاهد التّي تلوح من أقبية الذّاكرة بعضها بيِّنٌ كعَيْن الشّمس والآخر مغبِشٌ كالضّباب. لكنّي أذكر جيّدا ذاك الموج الهادر في تلك اللّيلة العاصفة وهو يحبس الأنفاس حين يعلو ويهزّ المركب ليتعالى الصّياح ويتجمّد الدّم في العروق فنحسب أنّه منقلب بنا لامحالة وأنّنا هالِكون، هالِكون! مركب وأطياف كثيرة مرصوصة فوق بعضها البعض لا تترك للنّفس من منفذ. الرّيح نفوح، والبرد صقيعيّ والكلّ يدعو اللّه متضرّعا أن ينجينا من هلاك حتميّ; كنت متشبّثة بثياب والدي، أبكي لأنّي كنت جائعة وكنت خائفة وكنت أريد أن أغفو فلا أغفو! لازلت أذكر وجه تلك المرأة الحامل- التّي ربما كانت تنوي الالتحاق بزوجها الذّي سبقها الى أرض الأحلام على أمل أن تنجب ابنها هناك لكنّ المخاض فاجأها على المركب في وضع أقلّ ما يقال عنه مزرٍ وعطن، أنهكها التّعب ونالت منها الآلام أيّما تعبٍ لتضع وليدها أخيرا ميّتا لاروح فيه. بكت، انتحبت، كان عليهم أن يتخلّصوا من الجثّة، أذكر دمعها وحرقة قلبها لمّا همّوا برميه في البحر، صاحت، لطمت، لكنّهم ألقوه في الموج ككيس بلاستيكيّ لاقيمة له، فغابت جثّتة في الماء ثمّ عادت وطفت على السّطح ثمّ تلاشى طيفه رويدا رويدا وذاب كما السّراب. أيّام نحسات، كدنا نموت فيها جوعا وخوفا وروائح زنخة تعبق فينا وحولنا من بول وقيئ وعرق وغيرها. هذا كلّ ما علق في ذهني في اللّحظة الفاصلة بين ما عشته قبل وبعد وصولنا الأراضي الإيطاليّة! حملني والدي ونحن منهكان، أنظر في وجهه الذّي ضمر فأرى في عينيه تعب السّابقين واللاّحقين. كنّا نظلّ طيلة اليوم في الشّوارع، وننام اللّيل في أيّ مكان يأوينا، يحضنني إليه ويهمس بي:"الغد سيكون أفضل أمّونة، سأوفّر لك كل ما تحلمين به وأكثر، يقبّل رأسي فأشعر أنّي أرفل في أمان العالم بأسره. أسحب صورة أمٍّي من جيب حقيبتي، أضمّها إليّ وأنام! ننتعل أحلاما وآمالا لم تحطّ رحالها أبدا بل حلّقت أكثر حين تعرّفنا على السّيدة" كلارا" بإحدى الحدائق العموميّة؛ أرملة في عقدها الخامس، رفِقت بحالي فقرّرت مساعدتنا وشغّلت والدي بستانيّا بمنزلها وحارسا عليه. كانت تعيش بمفردها، لا ونيس لوحدتها سوى كلبٍ كانت ترى فيه كل أهلها، أحبّتني وأحببتها، حتّى أنّي حسبتها والدتي عوضا عن أمّي التّي لا أعرف لها ملامحا إلاّ في بعض الصّور الباهتة التّي كنت أسحبها من حقائب والدي المهملة وأظلّ أحدّق في قسماتها وأرسمها خيالا يجيءحولي ويذهب، يدور في أرجاء المنزل، يرتّب غرفه ويسقي نبته، يطبخ ويحضنني، ينهرني ومن ثمّ يمسح الدّمع من عيني لكنّها تركتني حين فاض بها الفقر ولم تعد قادرة على تحمّل المزيد فأدارت لنا ظهرها ورحلت ولم أجد بعدها غير "اّمِيمَهْ" - جدّتي من والدي- تمسّد رأسي و تضع اللّقمة في فمي وتحمّمني حين أتّسخ وتسهر اللّيل حذوي حين أمرض لكنّها رحلت بدورها حين ناداها ربّها فلبّت ندائه سريعا دون أن تودّعني. هكذا هم الطّيبون يرحلون سريعا جدّا قبل أن نمسكهم! قالت لي ماما كلارا ذات يوم أنّ عليّ الالتحاق بالمدرسة; لم يكن هناك سبيل إلى ذلك لأنّنا بطبعنا كنّا فارّين من أعين الأمن والشّرطة، ولم يكن لذلك من حلّ سوى أن يعقد عليها والدي ويتزوّجا حتّي يحلّ مشكل الإقامة والهويّة، ارتبك والدي بادئ الأمر حين طلبت منه ذلك لكنّه سرعان ما وافق من أجلي. التحقت بالمدرسة ودارت السنّين سريعا وتخرّجت من كليّة الطّب منذ أربعة سنوات، لأجد نفسي اليوم في قلب الرّحى، واقفة على قدم و ساق أحارب فيروسا لعينا شبّ في البلاد والتصق بنا كمخّاط لزب ما إن نرفع من شباكه ساقا حتّى يسحب السّاق الأخرى ويمرّغها حدّ الركب وما كنت أظنّ يوما أنّه يتصيّد بماما كلارا بعدما بلغت أرذل العمر، لأنّنا دوما ما نعتقد أنّ الأقربين، أبدا لا يموتون! . ممدّة أمامي بجسم واهن وعينين غائرتين أنهكت زرقتهما الحمّى والسّعال، أحاول جاهدة أن أمدّها بأقصى ما يمكنني فعله لكنّنا اليوم في حال طاحن يذكّرني بتلك اللّيلة الهوجاء، ليلة الرّحيل ونحن نشقّ عباب البحر بمركب صغير واهن يمتطيه أكثر من خمسين فردا في الوقت الذّي لا يتّسع لعشرة رجال حتّى، حال أرعن يضعنا أمام امتحان ألذع من سيخ الحديد، كلاهما يجزّ الرّوح وينخرها في مقتل وقدّ شحّت الإمكانيات وتساقط علينا المصابون من كلّ فجٍ عميق. أمامنا مريضين وعلينا أن نختار أيّ منهما أن يعيش، علينا فقط أن نشدّ أوتار قلوبنا على العزف ونحبس نايه عن النّواح ونُعمل فقط عقولنا لنتجاوز المحنة. أمامي ماما كلارا تكاد تغيب عن وعيها من شدّة السّعال وامرأة أخرى في أواخر عقدها الخامس؛ امرأة كلّما نظرت في عينيها إلاّ وخربشت على زجاج ذاكرتي خربشات خفيفة، حاولت استحضار طيف يشبهها، مركون في سرادق الماضي لكنّي لم أفلح لأنّ الوقت ضيّق والثّانية التّي لا نقتنصها في إسعاف مريض يغادرنا فيها آخر.. كنت على حافتيْ جهنّم وكنت أحترق، بكيت صرخت أن يعفوني من هذا الاختيار لكنّ صوتي كان مكتوما والأذان حولي منغمسة في الوحل، كلّ يصارع نيرانه. لم يكن لقلبي أن يقبل بسلب الحياة من تلك التّي أوقدت شمس الحياة بدربي وأضاءت لي الكون من حولي وعقلي يقول لي بأنّ تلك المرأة المألوفة عندي هي الأجدر بالحياة. ماما كلارا، غير الكبر الذّي استولى عليها فإنّها تعاني أيضا من مرض السّكري وضغط الدّم و شلل ضعيف في بعض خلايا الدّماغ أمّا الأخرى فلا يضرّ صحتّها سوء هذا الفيروس الذّي أصابها! أنظر للمرأة التّي تسحبني رمال عينيها إليها غصبا عنّي، اقرأ ملّفّها، كان عليّ أن أفكّ شيفرة طيفها الذّي لم يفارق خيالي وأخذ يزحف في ردهات الماضي و ينبش عن سرّ قرّرت أن أكشف كنهه سريعا; وضعت أمامي بطاقة هويّتها ونسخة جواز سفرها. تونسيّة الهويّة! أوّل ما اقتنصه لحظي هويّتها واسمها الذّي أضاء عتمات الذّاكرة ورأيتها بوضوح؛ بوضوح رجّ عقلي وزعزع الأرض تحت أقدامي، لتقترب منّي زميلتي وتؤكّد كلّ ظنوني بقولها أنّها لم تنفكّ تهذي باسم ابنتها التّي أتت منذ سنة إلى ايطاليا بحثا عنها وتكفّر عن ذنب لازمها سنينا طويلة. ضربت الحقيقة قلبي بسهم وأدركتُ قبل أن تدرك هي أنّي ابنتها و أنّي الآن بين أميّن; أمٌّ لم تنجبني لكنّها احتوتني وأمٌّ أنجبتني لكنّها أهملتني! شعور بالحنق والكره والحقد ألمّ بي وقتئذ، صرخت بداخلي أنّي أكرهها لأنّها تخلّت عنّي وقذفتني أنا ووالدي بين أنياب البحر ليزهق روحنا. أكرهها لأنّها لم تهبني حضنا وثيرا يريحني من كلّ عقد اليتم التّى لازمتني طيلة حياتي! أقترب منهما، كان عليّ أن أحسم الأمر وأختار. تقدّمت نحوهما عازمة على وضع حدّ لتشتّتي، كانت ماما كلارا تسعل أمامي بشدّة، أحسست بروحي تنتزع منّي عوضا عنها والثّانية اشتدّ بها ضيق التنّفس واحمرّ وجهها وقاربت على الاختناق; الوضع حرج جدّا، وكلّي يتعارك مع كلّي، حملت جهاز التنفّس بيديّ المرتجفتين ونظرت إليهما نظرة أخيرة حاسمة أمري على الإبقاء على ماما كلارا ليبرق ضميري المهني فجأة ويشدّ وثاق صدري ويلجم أفواه الشّرّ داخلي وفي لحظة أمرّ من العلقم، أثبّت جهاز التّنفس على وجه المرأة الثّانية وأغمض عينيّ وأُوَلّهما ظهري مهرولةً; أجري بين ردهات المستشفى، تغلبني دموعي وتقذفني جنادل النّار من ضفّة لأخرى. أركن في زاوية خفيّة بالمستشفى وأصرخ بكلّ حرائقي أصرخ:

التعليقات

سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا

أحدث أقدم

إعلانات

إعلانات