متابعة لنشر القصص التي وردت علينا للمشاركة في مسابقة القصة القصيرة حول محور الكورونا ننشر قصة الصديقة ملاك منير عويدي ونطلب منكم كالعادة ابداء الراي وتقييمها في صفحة التعاليق بالمقارنة مع القصص الاخرى
............................................................................
لن نموت دفعة واحدة
الكاتبة ملاك مير عويديدي
الأمواج العاتية تحيط بها كالجبال الصّلبة. تتوقّف الموجات ويصير رذاذها الشّاهق كالثّلج، ينسكب كالفضّة الرّقراقة، يفقأ سطح الماء. يتناثر الرّذاذ على وجهها. يخمد صوتها. تستيقظ من نومها فزعة. تبعد ذبابة التصقت من نومها فأوجعتها. تتلمّس العجوز غطاء السّرير الّذي أفلت منها لتتأكّد من أنّها لا تقارع أمواج البحر.
تسلّق حفيدها شجرة التّفّاح المزهرة ومكث على أحد أغصانها ليراقبها من خلف النّافذة. رآها جالسة في سريرها، غارقة في صمتها وهي تقيم صلاتها المعهودة، ممسكة بمسبحتها تقلّب حبّاتها بين أصابعها. لا تشمّ إلاّ رائحة اللاّشيء. أضحت كلّ المأكولات بالنّسبة لها دون طعم أو رائحة. نزلت من سريرها ببطء وتقدّمت خطوة واحدة نحو خزانتها. فتّشت بين أغراضها عن صورة العائلة فمسّحت عليها وعانقتها بلطف. ثمّ أغلقت خزانتها في تؤدة.
قدّمت لها زوجة ابنها طبق الأكل من طرف الباب. فوضعت العجوز الطّبق على الطّاولة القريبة. تأمّلت حبّات الدّواء الكثيرة الّتي تنتظرها. لا تفقه أسماءها ولا تكاد تميّز ألوانها. أمسكت قرصا فرمت به في كأس الماء. نظرت إليه وهو يرسم دوائر على وجه الماء ثمّ يحتمي بقعره الرّهيب. شربته دفعة واحدة دون أن تتذوّق شيئا.
تتعدّد الفصول في سماء واحدة تغيّرها وهي فصولها كانت سويعاتها الّتي تمرّ زائرة مزمجرة راقصة قارسة تملأ حياتها.
استلقت على سريرها المرهق. شعرت كأنّ سحابة رماديّة تكوّمت فوقها. استنشقت الهواء علّها تفسخ تلك السّحابة فعاودتها نوبة السّعال. عقدت منديلا بجانبها لتلفّ به جبينها، فلا ريب أنّ صداع رأسها قد عاودها مجدّدا. يقرع كالطّبل في رأسها ويضرب كالمسمار فؤاد الصّبيّ الّذي تدمع عيناه. تسعل بشدّة حتّى تكاد أن تبصق بقلبها من فيها. رويدا يخفّ وجع رأسها دون أن يهدأ. يصير موجا خفيفا يعصف بجبهتها.
مدّت يدها إلى قارورة الزّيت لتشرب منها. فتشعر ببعض من الرّاحة. ذكرت كيف باع ابنها محصول زيتونه بثمن زهيد واشتراه وقد صار زيتا بثمن باهض. تأمّلت صورتها في المرآة طويلا. غمغمت بكلمات مبهمة ثمّ رفعت صوتها منادية: "أعلم أنّك تراقبني". اندهش الصّبيّ لفطنتها وابتسم وهو يراها تخطو نحوه. تسأله وتحدّثه من خلف البلّور. تداعبه إن كان ملاكا أم مفتّشا صغيرا. عدّ الفتى الأيّام الخمسة الّتي بقيت لتقضيها في حجر صحّيّ. أخبرها بحنينه إلى قطع الحلوى والنّقود الّتي تخبّئها له عن عيون أمّه. طلب عفوها عن المقالب الّتي كان يفعلها، كنظّارتها الّتي كسرها بكرته. ابتسم وجهها الشّاحب وأشرق محيّاها من بين الأنقاض الّتي حفّرها الزّمن وأضناها المرض.
ألقت بجسدها الوهن على السّرير وكأنّها تغوص فيه. لم يعد الصّبيّ يراها فحسب أنّها اخترقت أرضيّة الغرفة. نادى والده مستفسرا عن جدّته. لم يتذكّر سوى أنّه سمع بنقلها إلى العناية المركّزة.
سأل الصّغير أباه عن جدّته بحرقة فلم يستشفّ منه جوابا. خرج مهرولا ليرتمي تحت نافذة غرفتها الخالية، يقيم صلاة كما رآها تفعل ويدعو الله أن لا تتألّم جدّته مجدّدا.
...
حين عاد الصّبيّ من المدرسة، نزع كمامته واغتسل وملأ رئتيه هواء, أقام صلاة جدّته. أعلم أباه بأنّ المدارس ستغلق. سأل عن والدته النّائمة. استلقى تحت حبل الغسيل وكوب العصير يتأرجح فوق بطنه كمهد. تسلّق الحوائط المطليّة بالخيال الّتي رسمها في جانب خفيّ من مخيّلته، مفتّشا فيها عن ترياق لجدّته. بعد لحظات ورد اتّصال هاتفيّ لأبيه الّذي أعلمه بأنّ جدّته قد انتقلت إلى جوار ربّها. بقّع العصير ثياب الفتى وهو يهمّ بالصّراخ. لم يذكر سوى أنّه كفكف دمعه ليحتضن والده ويواسيه " علمنا أنّنا سنموت جميعا لكنّنا لن نموت معا. لن نموت دفعة واحدة".
لا يذكر كم ذرف من العبرات وهو يتأمّل موت جدّته وقد صار رقما يضاف إلى إحصائيّات ضحايا الفيروس. كانت المشاهد الّتي تبثّها نشرات الأخبار المحلّيّة والأجنبيّة خبرا مدمّرا في زوايا البيوت. وكأنّ القدر يلعب لعبته المفضّلة، مرّة أخرى. ويبرّئ نفسه وكأنّه لم يستشفّ من الغدر.
حين لمح الصّبيّ أمّه، سارع لاحتضانها. صاحت فيه وابتعدت عنه دون أن تنزع كمامتها. فكتم دموعه ومضى. أقام صلاة جدّته ومكث في غرفته. بعد ساعة أحسّ الصّغير بجوع شديد. لم يجد والده. ظنّ أنّه ينتظر طابورا طويلا أمام المخبزة وآخر أمام بائع الحليب. طرق باب غرفة أمّه فلم تفتح له. فحسب أنّها لم تعد تحبّه.
لكنّه سمع صوتها المتقطّع من خلف الباب وهي ترجف: أنا لا أجافيك يا بنيّ. كلّ ما في الأمر أنّي أصبت بالفيروس اللّعين ولا أريد أن أنقل إليك العدوى.
ترجّاها الصّبيّ أن لا تغادره. فطمأنته الأمّ: لا تخف يا بنيّ.. أنا أتماثل للشّفاء.. إنّي أحيى من أجلك. لا تنزع كمامتك وساعد أباك في تعقيم البيت جيّدا. سيعود والدك بالطّعام.. أحبّك.
ملاك منير عويديدي
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا