من قصص المسابقة. زمن الوباء . الكاتبة اميرة مبارك من قصص المسابقة. زمن الوباء . الكاتبة اميرة مبارك

من قصص المسابقة. زمن الوباء . الكاتبة اميرة مبارك

 نواصل نشر القصص القصيرة التي وصلتنا للمشاركة في المسابقة وكالعادة نطلب منكم تقييم القصة  ومقارنتها مع القصص السابقة للوصول الى تتويج صاحب القصة الافضل وهذه المرة ننشر قصة الصديقة اميره مبارك

************************************************************

الكاتبة: أميرة مبارك

زمن الوباء




أسندت رأسي المثقلة بالأفكار والمشاغل على زجاج نافذة قطار الأحواز المتجه بي نحو مدينة "حمام الشط" في الضاحية الجنوبية من العاصمة، كان الجميع حولي شاحبين كالموت، مكممين كأنهم جراحون قضوا ليلتهم في غرف العمليات، لا أرى من وجوههم غير الجباه العريضة الصفراء والعيون المرهقة التي لا تنفك أجفانها تتهادى في إعياء وملل شديدين. الساعة الآن السابعة ونصف دهر وبضع ثوان من الألم، هكذا أشارت عقارب الوباء في ساعتي.. نحن في أوج موجة الكورونا ولا نعرف لهذه الجائحة مانعا أو دواء، لذا فالكل خائف من الآخر المتواجد حوله ومن سهو نفسه ومن المقابض والأبواب والهواء! 

لم أفكر يوما أنني سأعيش واقعا يحاكي سيناريوهات الأفلام الأجنبية، تلك التي تلوح بنهاية العالم وفناء البشرية والمجازر الجماعية. بالأمس شاهدت الأخبار على قناة "الجزيرة" وهي القناة الإخبارية الوحيدة التي يثق أبي في صحتها إلى حد أنه إن سمع مقدم الأخبار يقول أن السماء ستمطر أرانب هذا المساء فسيخرج لزراعة حقله جزرا وقرنبيطا، ولكن مقدم الأخبار لم يذكر شيئا عن الأرانب ولا عن أحوال الطقس والأمطار.. كان فحوى كلامه أن: "شاهدوا أعزاء المشاهدين هذا التقرير عن الحالة الوبائية في الهند." 

وشاهدت وعائلتي تلك المحارق الجماعية والطاعون الشرس الجديد الذي أتى في غير عصره. شاحنات عملاقة محملة بالحطب الجاف الذي ينتظر أن يحرق ويحرق بدوره اللحم والعظم البشري، صفوف من الجثث المرصفة بانتظام تنتظر دورها لتستحيل رمادا في كفنها الرث، أستطيع أن أشم رائحة الموت عبر شاشة التلفاز في مجلسنا العائلي الذي تزعزع دفئه وانقلبت الضحكات فيه همسا والكلمات فيه تنهيدات عجز. كانت عواطفنا الإنسانية في تلك اللحظة وأمام تلك المشاهد المفزعة جياشة إلى حد كبير، إلى أن نطقت جدتي البالغة قرنا من العمر معلقة:" لا تقلقوا يا أحفاد، هؤلاء يشربون بول البقر أما أنتم فتشربون حليبه." ضحكنا رغما عنا متناسين المشاهد التي عرضت لتوها أمامنا في بث مباشر، فنحن نعلم أن الهند بعيدة وأن حليب البقرة لا يضعف المناعة كما يفعل بولها.. أو على الأقل هذا ما تعتقده جدتي. 

كنت قد أوشكت أن أغفو لما وكز مراقب التذاكر ذراعي بإصبعه فانتفضت كأن تيارا كهربائيا قد لسعني، ابتسم لي من تحت كمامته فاكمشت بعض التجاعيد حول عينيه وقال معاتبا:" أما تكفون عن مثل هذه التصرفات الصبيانية؟، التذكرة لوسمحت! ". تململت سريعا وأخرجت من جيبي سروالي الخلفي التذكرة المنشودة، فعبس فجأة ومهمه وحمحم ونظر إلي وقد بدا أنه يحاول الإعتذار ولكنه ابتلع الكلمات التي كان عليه تقيؤها واستدار وابتعد صامتا. 

عدت أتكئ على الزجاج وأنا أعي أن النوم المريح يستدعيني ولكنني رحت أذكر تلك الحادثة التي كنت شاهدة عليها هذا الصباح في مكتب الشركة، كنا في اجتماع شهري تقييمي نحلل فيه مردودية الأقسام وما يمكن تعديله في منتوجاتنا واستراتيجيات العرض والطلب، ولم نكمل اجتماعنا حتى دوت من وسط الشركة صيحة بصوت نسائي أقرب للعويل، خرجنا متجمهرين حول الآنسة "سوسن" المستلقية على الأرض فاقدة لوعيها نسبيا، كانت حرارتها مرتفعة وكل بوادر الإصابة بالفيروس اللعين بادية عليها، لم أفهم ما عنته لما أمسكت ياقة قميصها وشرعت في شده حتى استأنفت الشهيق بصورة مفزعة كمن يحاول استرجاع روحه المسحوبة من جسده.. بقي ذلك المشهد راسخا في ذهني وتجمدت في مكاني كمن صعقه الصقيع ولم أتمكن من رفع هاتفي ومكالمة الإسعاف أو الفرقة المختصة في مجابهة الفيروس والعناية بحالات الإصابات الحرجة، تسمرت هناك أشاهد بداية المحارق في وطني، يبدو أن الهند لم تكن بعيدة كفاية.. يبدو أننا ضحايا حرب لم نخترها ولكننا مجبرون على خوضها، فإما النصر أو النصر.. هكذا هو حال كل الحروب البشرية، أم أن الأمر مختلف هذه المرة؟ إنها معركة لا نرى فيها العدو بالعين المجردة ولا نلمسه باليد ولا نسحقه بالدبابات ولا نقصفه بالقذائف ولا يمكن أن ننسفه بالصواريخ.. يال سخرية القدر! طورنا أكثر الأسلحة فتكا ولكننا لا نستطيع قتل فيروس مجهري بها! 

توقف القطار ونزلت متجنبة لمس الكراسي والأعمدة المعدنية قدر الإمكان، واصلت طريقي مترجلة نحو المنزل ولما ولجت ووضعت حقيبتي فوق الفراش رن هاتفي فأجبت سريعا وقد كان في الطرف المقابل مدير قسم الموارد البشرية في الشركة يعلمني أن العمل الحضوري توقف وقتيا وأن الآنسة سوسن قد توفيت منذ ساعة في غرفة العناية المشددة في المستشفى العسكري وأننا سنباشر العمل منذ الغد عن بعد عبر منصات التواصل الاجتماعي. زف إلي الخبر دون مقدمات أو تزويق وكأنه يعلمني بإشعار روتيني يخص العمل! إنها سوسن!! إنها روح بشرية! روح بشرية تجاوزها البشر! 

فكرت في تلك اللحظة، هل سيكون لي نفس المصير؟ هل أن هذا الوباء لن يقتلنا فقط؟ هل سينزع منا إنسانيتنا فنتخلى عن عواطفنا وما يميزنا كبشر؟ أ سننقلب وحوشا تهوى البقاء وتنمو على خصال الأنانية والفردانية المقيتة؟ يا إلاهي! سأنسى كأنني لم أكن وسيباشر الأهل حياتهم اليومية باسمين وسأستبدل في الشركة منذ اليوم التالي الذي يوارونني فيه الثراء. 

عندما تصفحت صفحات الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعية لفتت انتباهي تلك النظرية. إن الأرض تعيد تصحيح نفسها عبر التخلص الدوري من البشر! هكذا حدث عندما انتشر الطاعون في أثينا سنة أربع مائة وثلاثين قبل الميلاد ودمر شعبها مدة خمسة سنوات، مرورا بوباء قبرص الذي أسقط أول ضحاياه "قبريانوس" أسقف قرطاج ثم انتشر في شعبه كالنار في الهشيم، وصولا إلى الموت الأسود في آسيا وأوروبا الذي غير التاريخ بفتكه بنصف سكان البلدان الأوروبية.. واليوم جائحة كورونا! هذا الفيروس اللعين الذي لا ينفك يطور من نفسه ويخلق متحورات لا نهاية لها! إن التفكير في تبعيات انتشاره ترعبني وتجعلني عبدا للمخاوف المتجددة، فماذا لو أصاب أحدا من أفراد عائلتي؟ ماذا لو أهلك جسد والدي المصاب بداء السكري أو أنهك جهاز جدتي التنفسي؟ ماذا لو أصيبت به أمي؟ ماذا لو.. ماذا لو؟ ... 

إن أساليب التعذيب القائمة على الألم الجسدي لأرحم من عذاب الخيفة الدائمة.. خوف من فقدان الحرية، من فقدان العائلة، من الموت والنسيان، إن الخوف من المجهول بإختلاف أشكاله يمثل مستوى آخر من جلد الذات البشرية. 

نمت تلك الليلة معانقا وسادتي كطفل صغير يخشى الوحوش القابعة تحت السرير، إلا أني كنت أخشى وحوشا قابعة في كل مكان وفي لامكان..وفي الصباح الباكر نهضت كعادتي واستحممت وارتديت ثيابي واتجهت نحو الباب، وقبل أن ألج خارجا تذكرت أن الشركة مغلقة وأنني قد فعلت كل ما سبق من إعدادات صباحية بفعل العادة لا غير.. وكم آلمني أن أعود إلى الفراش محبطا محدقا في السقف أنتظر بفارغ الصبر اجتماع العمل وأنباء جديدة والفرج.   

وما كانت الأنباء منذ ذلك اليوم غير موجات متواصلة من الهلع والانزعاج والملل والحجر الإجباري والإختياري.. وتلاقيح لا ندري مدى نجاعتها. 

هكذا أصبحنا في زمن الكورونا مساجين جدران وكمامات فلا نحن تحركنا ولا نحن نستطيع الكلام، ولا نحن نلنا خلاصا ولا نحن هنئنا سلاما. 



التعليقات

سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا

أحدث أقدم

إعلانات

إعلانات