بقلم الاستاذه منوبية الغضباني
...مقتطع من رواية "طيش الإحتمالات" لزهرة الظاهري
كان يضجرها إحساسها بأنها تعيش أسيرة داخل سجنها الملون وكانت من بين كل اللوحات التي رسمتها تعشق تلك اللوحة المعلقة على جدار غرفتها.. وكم كان يحلو لها أن ترنو إليها كلما عاودها إحساسها بالضجر وعاودها حضوره ذاك الذي أيقظ فيها شعورا بأن الحياة تكون أكثر ثراء كلما فتحت لنفسها سبيلا ينهض أعتى من غبار الحصار،ينطلق..
عيناها لاتفارقان اللوحة المعلقة على الجدار، طائر السنونو المحلق في غيم ممزق ينشد الحد الأقصى من الأفق، غيمات هادئة متربعة على عرش السماء تترصد حلم الماء يحول الموج البعيد رقصا يتسلى بزرقة البحر الممتدة في المدى البعيد... يتجمل الكون، تبتسم الشمس حين تنثر السماء ألوانها، تداعب خصلات مساء يرتقب النسمات وتتدلى عناقيد السحر تسبح للمكان اللامع.
عيناها تائهتان تنظران حينا إلى اللوحة المرسومة فوق روح تسبح للألوان وأحيانا إلى جدران غرفتها الموصدة .. لفها صمت يتخبط بين أمواج الصدى وشفتاها ترددان كلما علق نظرها بطائر السنونو المسافر خلف الغيوم "لماذا تعشق الطيور الرحيل؟ لماذا لا نطير؟ أيكون الفضاء أرحب في أفق يفتح شبابيك انتظار، أزهار تغرف الحلم من أنهار تحاور شرفتها البعيدة بلا ألوان..
اقتربت من الوردة الحمراء القانية المتوجة ملكة في شرفتها تسقيها ماء وتمسح بلمسة من أناملها الناعمة أوراقها اللامعة.
" كأن السواد يغطي الجزء الأكبر من الحمرة. لماذا لم أنتبه إلى ذلك قبل اليوم؟"
راودها سؤال قلق قبل أن يخز إصبعها شوك الورد.. استنشقت بملء رئتيها الروائح العبقة وهي تبتلع شرودها مرددة وشبه ابتسامة مرسومة على شفتيها " من يعشق الورد لا يبالي بوخز الشوك "
استلقت على فراشها تنشد لنفسها بعض هدوء وهي تذكر آخر ما مر بها استسلمت لخدر لذيذ.
وقف إلى جانبها على باب اللوحة المتربعة فوق الجدار.. الوقت صمت يتدثر كلاما يصيّر أباريق عسل والعيون مشدوهة لسحر المقام. . وقفا عاريين من وشايات الأماكن كتمثالين نحتا من ضياء النجوم.. تمثال ينبض في السمع أناشيد بحر، ينتشلها من غيبوبتها، يطير بها في سماء العاشقين،يجلسها على بساط من مرمر، يشعل الشموع في المكان ويوشحه بعطر المسك والعنبر... كل العطور صارت قباب همسات .. لمسات وشغف خيال يحلق، يهديها فراشا من حرير وبين حيرتين يذيقها شهدا ويهديها طقوسا من العشق زمن الأساطير.. يغوص بها في بحر يربك الصمت لتلقي بمرساتها وتتضوع وجدا .. وقبل أن يهدهد الفجر سواد الليل يقرر الرحيل تاركا في عينيها أهازيج حب وحنين تعاتب الصمت وتهفو لسعادة من يقين .. صمت ينادم دمعا، حيرة يسكنها حرف يتيم...
يعانق قلبها هديره، ترتشف من أمواج الحنين عبق الحضور وتستنشق وجدا لفرحه الذي خلفه وراءه ذات لحظة رسمها قدر.. وفجأة ينام القمر ويغتال الوجع قوافل الضياء.. تعود طفلة مرتبكة الملامح، تلثم الفراغ، تتوق إلى نداء فجر بلاأوهام، تسامر أنسا بلا فجيعة، تذري حلمها الطليق في الماء، ترسم لها من بين الأشواك دربها، تسرق من غيمة حزينة نسمتها، تسابق الريح وتجعل من السماء قبلتها، تعانق أمنياتها الصغيرة، تداعبها، تنتقي أحلامها وتجملها.... طفلة تحتاج لأن تعيش ماتبقى من الحلم.. تحتاج لأن تستنشق بملء أوردتها نسمات أمل مجنح نحو القمم وأن تزرع لها الشمس بأشعتها أجنحة فتحلق في سماء الأمنيات البعيدة..
طفلة تحتاج إلى نور دافئ يلفها ويأخذها من صقيع شتاء طويل.. تحتاج لأن تستمد من ليلها بعض سكينة لتهدأ حيرتها وتنام خلف ستائر غيمته..
تختفي الطفلة خلف غمام من رماد... اللوحة المثبتة على الجدار تدنو منها.. نافذتها الموصدة تشاغبها، النافذة الوحيدة لسجنها الملون وصدى صوت آت من بعيد: افتحي نافذتك الموصدة من سنين، ارفعي عنها الستار، سافري مع نفسك ولاتلتمسي الرجوع.
______________________________
القراءة
أديبة جديرة بتسليط الضّوء..لم تقع بعد في إغراء النّشر رغم كثافة انتاجها وتنوّعه.تعتقد أنّ المشوار لهذا مازال ممتدّا ...يستحقّ الثّبات والتّريّث.
وقعت على هذا النّص من روايتها قبل اصدارها وإن كانت المجازفة ثقيلة عليّ باعتبار أنّ ورقة مقتطعة من رواية بكم صفحة لا يمكن أبدا ان يكون مدخلا لهذا المنجز .فالقراءة فيها لا يمكن أن تتمّ بمعزل عن كلّ فصولها بما ييسّر المتابعة والتّحليل والإلمام بموضوعها قصد جمعها واستتباع تراكمها بمؤتلفه ومختلفه بما يوفّر أسسا مقنعة تهيئ ذهن المتلقي بشكل أرحب وأعمق فيكون أكثر استيفاءالها.
ولعلّ مالفت انتباهي وأنا أقارب هذا النّص بمعزل عن لاحقه وسابقه طرافة الشّخصيّة أو بطلة الرّواية...مع هذا الرّصد الدّقيق الشيّق لصراعات تقارع فيها هذه البطلة خصومها الذاتية الوجدانية والإنفعاليّة ..
فالبطلة رسّامة تعيش ضيق المكان ومحدوديّته يقابل هذا سعة التّخيّل ورحابة الأفق..وقد رصدت الرّاوية هذا المعطى بحرفية متفوّقة
تقول زهرة
كان يُضجرُها إحساسها بأنّها تعيش أسيرة داخل سجنها الملوّن.....
فعبارة "الملوّن" تحيل الى الباطن والواقع المغيّب لتصبح الألوان أبجديّة المعنى والفكرة حيث يشعر المتلقي منذ الوهلة الأولى والجملة الأولى بنشوة الإحساس بمغزى العملية التّأمليّة التي تعلن عنها الرّاوئية في قولها
"وكانت من بين كل اللوحات التي رسمتها تعشق تلك اللّوحة المعلقة على جدار غرفتها.. وكم كان يحلو لها أن ترنو إليها كلما عاودها إحساسها بالضجر وعاودها حضوره ذاك الذي أيقظ فيها شعورا بأن الحياة تكون أكثر ثراء كلما فتحت لنفسها سبيلا ينهض أعتى من غبار الحصار،ينطلق.."
لتأخذنا الى فعل إبداعيّ يقوم على التّأمّل في لوحة...فكأنّ الرّسم كعمليّة إبداعيّة هو سياق من سياقات كسر الضّجر وتخييب واقع بمنع تسرباته المخذولة...
فننصهر في أفق قراءة تفاعليّة مع اللوحة عبر بطلتها ...فنظفر بدلالات شتّى منها أنّ
الحياة أكثر ثراءا عبر اللّوحة
مع برورز "طائر السنونو" وماله من رمزية وقداسة ولونه الاسود والأبيض الحامل لرمزي الحزن والنقاء...النكد والسلام ...
غيمات هادئة متربعة على عرش السماء
تبتسم الشمس..تنثر السماء الوانها ..
تتدلّى عناقيد السّحرتسبح للمكان اللاّمع
فالقراءة هنا ادراكيّة توقفنا على تشابيه ضمنيّة وتحيلنا الى قراءة تفاعلية نتجاوز بها كمتلقين التّقدير الإدراكي لنتصوّر الشمس تبتسم والغيمات تتربع والسماء تنثر ألوانها...
وينتابنا الذّهول ونحن نتابع البطلة وهي تتأمّل لوحتها فيتفتّت ضجرها واحساسها بضيق الفضاء والمكان
"عيناها تائهتان
فوق روح تسبح بالألوان
وبين جدران غرفة موصدة"
فبلاغة التّعبير وأناقة اللّفظ وعلوّ سقفه تأرجحنا في دوائر ضيق أحيانا وأخرى في دوائر عالم متخيّل رحب .
وماهو جدير بأن نومئ إليه احتفاء هذا النّصّ كغيره من نصوص زهرة الظاهري بشحنة تعبيرية راقية وبمعايير ابداعية جهازها اللغوي خارق وذو ثراء مُتْرف.
ويتحوّل فجأة سجنها الضيّق الى فضاء عميق الرّحابة فتشكّل ذاتها وأعماقهاالوجدانية ...لتتحدى فضاءاتها المأهولة وجعا وضيقا وتبرّما
" استنشقت بملء رئتيها الروائح العبقة وهي تبتلع شرودها مرددة وشبه ابتسامة مرسومة على شفتيها " من يعشق الورد لا يبالي بوخز الشوك "
استلقت على فراشها تنشد لنفسها بعض هدوء وهي تذكر آخر ما مر بها استسلمت لخدر لذيذ. "
فعلى هذا النّحو يجيئ الإنفلات من الواقع ليلقي بشخصية الرّواية وبطلتها في دائرة الحلم والفرح والتّحرر من محدوديّة المكان والزّمان عبر استقراء للوحتها.
ويتسّع عالمها معلنا فصلا جديدا من فصول الرّواية بما يصعّد تفاعل وانفعالات المتلقّي فيصبح مفتونا مسلوبا لبّه...مكابدا في قراءته للفصل الجديد لاهثا وراء أحداثه ومشاهده...وتطوّراته
"وقف إلى جانبها على باب اللّوحة المتربّعة فوق الجدار.. الوقت صمت يتدثّر كلاما يصيّر أباريق عسل والعيون مشدوهة لسحر المقام. . وقفا عاريين من وشايات الأماكن كتمثالين نحتا من ضياء النجوم.. تمثال ينبض في السمع أناشيد بحر، ينتشلها من غيبوبتها، يطير بها في سماء العاشقين،يجلسها على بساط من مرمر، يشعل الشموع في المكان ويوشحه بعطر المسك والعنبر.."
المدهش والمثير هو أن يصبح للوحة باب...يلجه هذا الطارق "التّمثال "ليحوّله الى مكان طافح بالدّفء والحميميّة والشهوة وتوفّر الرّغبة..
فحضور مؤشرات الوصف لما انتابها من خدر لما وقف "هو" عند الباب كما قال عنه "بارت"في مؤلفه introduction à l analyse sructurale des recits هو وصف يحيل على شعور أو مزاج أو جوّ يفرض على المتلقي أن يفكّكه .
واغراقنا في وصف دقيق للحالة المزاجية والشّعورية للبطلة ترسّخ انخراط هذا النّص في سرديّة جيدة وموفقة ..وهي معطى هامّ في العمل الرّوائيّ..
وفي خاتمة النّصّ نلاحظ النهاية للحظة انتشاء الذّات التي تشعّ منها الذات خارج ذاتها وواقعها لتحتجب وتعلن نهايتها فيجيئ التّقوقع من جديد ويحضر الصّراع كخصم شرس..
وهو لعمري جنون الفن في الكتابة الذي يتحول الى محاور للإنسان
"اللوحة المثبتة على الجدار تدنو منها.. نافذتها الموصدة تشاغبها، النّاّفذة الوحيدة لسجنها الملوّن وصدى صوت آت من بعيد: افتحي نافذتك الموصدة من سنين، ارفعي عنها الستار، سافري مع نفسك ولاتلتمسي الرجوع."
واخيرا مايمكن ان اقوله عن هذا النّص المقتطع من رواية للمبدعة زهرة الظاهري أنّ هذه الكتابات المتفرّدة المحتوى والمضمون هي الأعسر والأصعب وابداعها يقاس بما يحدث بدواخلنا وهي التي تُعلي أرواحنا في منعطفاتها الواعية واللا واعية تّحضر حالات وجدانية وصراعات انفعالية وتظهر طاقاتنا كبشر في دقائقها وتفاصيلها ..
هي مسلك في الأدب الحديث يهتمّ بما يُترعُ ذواتنا ...من باطننا العميق القصيّ وما يغزوه
تقديري وتشجيعي وآمل أن اكون قد لامست مقاصد هذا النّص من رؤيتي الخاصّة وما بصمه في نفسي من انطباعات ...
وتبقى القراءة كما قيل خاطئة في انتظار قراءات تكملها ...
منوبية الغضباني
القصرين في 19.07.2019
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا