الطّريق رقم 3
قصة بقلم الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر
أمسك بذراعه.. صاحبه ورفيقه وقرّة عينه.
- أتعرف يا البدري ؟ قلت لك إنّني أهدّ الجبال وأحوّل التراب إلى ذهب.. تلك الشهادة...
قرّب رأسه وهمس له :
- تلك الشهادة التي تعرف حقيقتها، أصلها وفصلها، قد أينعت وأثمرت.. ترى ما حال شهادتك ؟
أخرج من جيبه لفّة من الأوراق الماليّة.
- فرجت يا البدري خويا
- فرجت!
ناوله ورقات قليلة من فئة العشرين دينارا.
- هذا دين عليّ أردّه إليك.
- لا أصدّق !
ابتسم حتى تعرّى طاقم أسنانه الذي غابت عنه سنّ من أعلى وأخرى من أسفل.
- جزى الله الثّورة كلّ خير.
- أفعلتها يا موسى ؟
أعاد اللفّة إلى جيبه.
- أرأيت أنّني لا أخطئ الهدف أبدا.. وداعا يا مطعم المشويات.
- ماذا تعني ؟
أشار إليه بالسبّابة.
- الطريق إلى العاصمة أمامك.. تونس يا تونس.. جرحك مازال يؤلمك وسيظلّ كذلك.. ستلقى جزاءك وسيكون أكبر من جزائي مع قبلة على الجبين من السيّدة المحترمة.. باي باي.
غاب موسى ناشبا أظفاره في جيبه وبقي البدري يتابعه بالنّظر مصدّقا وغير مصدّق.
على الجمر، ناره الموقدة، يمروح البدري بطبقة خفيفة من لوح الخشب، يطاله اللّهب فيمسح بكفّه على وجهه، ثمّ على رقبته ليزيل العرق .. يحمى الجرح في أعلى الكتف فيتأوّه ويضع حافة إصبعه عليه يتحسّسه ليلطّف من الوجع.. عليه أن ينفخ على الموقد، وعليه أن يتلقّى لهب النّار وعليه أن يقلّب شرائح لحم الخروف فإذا خمدت النّار قليلا صبّ عليها الماء فاستعادت جذوتها.. الشحم الذّائب السّائل على الفحم يستشيط هيجانا حين يرشّ عليه قليلا من الماء فيتصاعد في الفضاء أعمدة دخان ونار، وعليه أن لا يتوقّف عن النّفخ حتى يستوي اللّحم المشويّ فيخرجه من الموقد ويقدّمه للزّبائن الذين ينتظرون على نار موقدة.
******
يشتدّ عواء السيارات القادمة من العاصمة وما بعدها في اتّجاه مدن قفصة والقصرين وتوزر.. الطريق جحافل من النمل يسعى غاديا رائحا.
******
ومضت أيّام الثورة.. طوى الزّمن الأحداث.
******
كان البدري هناك في الساحة حين عوت الحناجر والتهبت الأكفّ
انتفضت المدينة فانتفض البدري، روّح عن نفسه وضحك كثيرا، غمرته النّشوة فالتقط الحجر ورمى به، أمسك بعصا من حديد وهشّم بها واجهة دكّان وضحك، ثمّ ضحك ليخفّف من مرارة الواقع، من همّ البطالة والتسكّع.
كان هناك، كان يوما، كان عصفورا انطلق من الحبس مرفرفا بجناحيه منتشيا فرحا مزهوّا والعصا بيده حتى عبثت بنشوته طلقة نار.
من أين جاءت ! جاءت مع الرّيح.. إنّ الذي أطلقها كان هو الآخر منتشيا سكرانا.
يوم عيد، يوم الصّيد الحلال، يوم سمفونيّة الحناجر، يوم زغردت فيه النّساء ويوم جرّحت نساء أخريات خدودهنّ.
يوم مضى.. ابتلعه قطار الزّمن.
******
استقرّ البدري صانعا في مطعم المشويّات على حافة الطريق.. الطريق رقم 3 الهادرة أساطيلها، شاحنات ثقيلة على ظهورها الأعلاف والآجر والإسمنت، وشاحنات خفيفة عليها خضر وغلال، وسيّارات بلا كوابح.
هنا.. على حافة الطريق رقم 3 مطاعم هنا وهناك.. شرائح لحم مشويّ على نار الفحم وصحون مكلّلة بزيت النّبات وعليها هريسة نابليّة وفلفل أخضر حارّ وفلفل برّ العبيد قرونا صغيرة أحرّ من الجمر.
******
استقرّ البدري.. يميل بكتفه اليسرى نحو اليسار حين يخطو، ويميل بها نحو اليمين قليلا حين يتوقّف مباعدا بين قدميه مستقبلا اللّهب الذي ينطلق أحمر وهّاجا ويتحوّل أزرق على قدر صعوده إلى الفضاء.
دخان كثيف ملوّث بعصارة الشحم واللحم.
البدري المجروح، جريح الثورة المنفلت من مقاعد الدراسة الجامعيّة صانعا عند صاحب مطعم المشويّات!
يمرّ اليوم ثقيلا، يتثائب ضوء النهار ويختفي.، يتكدّس اللّيل طبقات، تتساقط أشعّة النجوم على الأضواء المنبعثة من الشاحنات والسيّارات فتمزّق جلباب الليل.
تعب البدري.. الجرح ما انفكّ يخزه.
منتصف الليل.. انطفأ الموقد.
أغمض البدري عينيه ونام.
صحا صباحا فتلمّس الجرح.
غدا لناظره قريب.. سيأتي الجزاء والتعويض.. قالت له ذلك تلك المرأة التي يتحرّك لسانها في فمها كقطعة صلصال تتلوّى.
ريح الثورة يحملها في طوايا ثيابه.. الثورة انغلق عليها الجرح.
أحيانا ينظر إلى حذائه فيبتسم خفية.. الآن ابتسم ملء شفتيه حتى انكمشت بشرة خدّيه ليكوّن كلّ خدّ مع الأذن شفتين ترتجفان مثلما ترتجف الرّئتان.
البدري يحمل رئتاه وقلبه على شفتيه ويحمل الجرح على الكتف كما يحمل أبوه برنس الصّوف الأسود.
ينظر البدري إلى حذائه، يلتقطه، يرفعه إلى مستوى الصدر، يتأمّله جيّدا، يمرّر إصبعه على الثقوب والجروح التي جعلت منه قطعة أثريّة، تحفة الزمان والمكان.
******
مرّ عام ثمّ عام ثمّ عام منذ أن سقط في الساحة العامّة كاليمامة من أعلى شجرة.. يتذكّر أنّه كان يهتف.. الوطن قطعة من كبده.. الوطن الذي لوّثته الشعارات والأراجيف.. البدري ابن المدينة خرج هو الآخر ليهتف فجلده الحظّ وجلدته الدّنيا.. الدولة، دولة تسير بقدر، في ظاهرها وباطنها روائح تزكم أنفه، وألوان لا لونا أحبّ ولا لونا كره.. لا شيء.. تكلّس الإحساس كما تكلّس الجرح.
مع حركة الزّمن سار البدري، كما يسير القمر، كما تسير نجمة وهّاجة أوّل اللّيل وتنطفئ آخره.
سيستبدل هذا الحذاء حين يقبض التعويض ويدخل العيادة فيستخرج الرصاصة من الكتف.. يوم الواقعة لم تكن لديه رغبة في الإعتداء بالكلام الفاحش على أحد بعينه أو مؤسّسة أو عصابة أو حاكم.. الكلّ سواء.. إنّما هتف بأعلى صوته كالآخرين لأنّ الانفجار يضطرم داخله.. لم يكره أحدا بعينه إنّما الكراهية كائنة رغم أنفه.. الوطن شعلة في قلبه.. دقّات قلبه موسيقى وأنفاسه خرير جدول.. اليأس آت من الحزن المرسوم على الوجوه.. حزن وخيبة وخوف.
جروح الحذاء وجراح الجسد مشهد مثير.. يتلمّس البدري بأطراف أصابع يده اليمنى كتفه، ويمرّر أصابع اليد اليسرى على بشرة الحذاء التي أصبحت شبيهة في يبسها وتشقّقها ببشرة الجسد.
******
رمت به أشواقه عند مكتب السيّدة ذات اللسان الغليظ الذي يسدّ فمها فيصبح الكلام قهقهة وقرقعة وشقشقة.
سيّدة ذات وجه في زرقة السماء أيّام الجدب والجفاف.. أشاحت بوجهها عنه لمّا حدّق فيها.. خضّه إحساس متوحّش وظلّ يخضّه.
- ألست أنا أولى من موسى وأمثال موسى ؟
صبّت الشاي من الترموز، لعقت بأطراف شفتيها الغليظتين الزرقاوين كما تلعق القطط حليبا منسكبا على الأرض.. لوت شفتها.
" يا البدري.. الثورة أعطت ما فيها فلن تكون شمسا ولا قمرا.. الثورة لا تمطر أموالا ولا ذهبا.
" الثورة ريح صرصر على البلاد والعباد.. خذيها ضمّي عليها شفتيك الغليظتين ثمّ امضغيها وابتعليها.. اغمضي عينيك وتلذّذيها."
- أووف.. ما كلّ هذه الركاكة يا البدري ؟
- حقّي ونصيبي.
مطّت شفتيها ثمّ مطّطتهما فازدادت البشرة الزرقاء زرقة.
- اجلس يا البدري.. اجلس ، قلت لك اجلس.. لديّ ما أقوله لك بشفافيّة وهدوء وصراحة.. اللّجنة نظرت في ملفّك وملفّات أخرى بانتباه شديد وبمسؤوليّة شديدة.. أعضاء اللّجنة محلّفون ومنزّهون ووطنيّون أبا عن جدّ.
داعبته رائحة فرحة آتية من محيط المكتب.
أخرجت السيّدة كدسا من الملفّات وجعلت تتلو أسماء الجرحى بصوت عال.
- جيّد جدّا.. لم يبق إلاّ ملفّان فقط.. هنا في هذا المكتب لن ترى إلاّ خيرا.. الأخبار السارّة سرت في قلوب مئات الجرحى كسريان النّار في الهشيم.. رغم أنك فظّ الكلام حادّ الطبع كأنّك ضدّ الثورة المباركة فإنّ الثورة المباركة لا تنسى أبناءها.
أحنى رأسه وتصاغر ثمّ رفع نظره باحتشام.. ابتسمت السيّدة وهي تمسك بأصابعها الزرقاء شاهد إسمه مرسوما عليه.. تململت قطعة الصلصال في الفم.. همّت بالخروج من محيط الشفتين.. همّت ثمّ تلكّأت.
- رحمة الثورة واسعة ورحمة الله أوسع يا البدري.
نهض وأقبل عليها يهمّ بتقبيل رأسها لكنّها صدّته بإشارة من يده وهي تورّق الملفّ .
- ما قد تأخذه ليس هديّة منّي أو من أحد غيري.. حقّك.. نصيبك من الثورة.
دفع بصدره إلى الأمام حتى ارتطم بحاشية الطاولة.
قفز كالفهد رغم ألم الجرح وقبّل كتفها .
- يرحم الوالد يا سيّدة يا طيّبة.
******
وضعت أصابعها العشرة على الورقة.. تثاءبت قطعة الصلصال وراء الشفتين.. دفعت بالشفة العليا إلى أعلى والسفلى إلى أسفل، برقت عيناها فبرقت عيناه فرحا.. اختفت قطعة الصلصال فانتفخ الخدّان.. تلألأ وجهها فبدا له في لون وردة تستقبل ضياء الصبح.. ما ألطفها.. ما أروع هذه السيّدة.
مطّط رقبته ليطبع قبلة على جبينها لكنّها صدّته بإشارة من يدها.
- اسمع يا ولد.. أنت حراميّ وابن حرام ولقيط متحيّل.. أردت أن تخدع الثورة واللّجنة لكنّ هيهات.. كم دفعت للطبيب من أجل هذه الشهادة المزوّرة ؟
- أنا دفعت للطبيب ! أنا ابن حرام !
أغلقت الملفّ وضربت به الطّاولة .. نزع قميصه وواجهها بكتفه.
- انظري هذا الجرح والرصاصة شاهدة.. الرصاصة في لحمة الكتف أكبر من مضغة لسانك.. أكبر من قطعة الصلصال التي تسدّ فمك، فمك الذي يرمي بلا مبالاة بحبّات اللعاب، بسفالة أعضاء اللجنة، ببطلان الثورة.
حدّقت فيه وابتسمت.
- وماذا بعد !
تكوّر على نفسه، تكوّر حتى أصبح كالرصاصة.
- أنت سيّدة فاسدة.
طوت ذراعيها واتّكأت بهما على الطاولة.
- وماذا بعد ؟
انطفأت شعلة غضبه، تمطّطت عضلات وجهه وصدره.. لاذ بالصّمت.
- وماذا بعد وماذا بعد وماذا بعد.
******
صباحا ككلّ صباحات الطريق رقم 3 تمايل البدري أمام مطعم المشويات.
الساعة العاشرة.
الشمس من فوق والفرن من أسفل.
الشاحنات تزحف على الطريق، السيّارات المجنونة بلا فرامل.. اقترب من الفرن، رمى بالفحم ونفخ بطبقة اللّوح حتى التهب الفضاء.. قرصه الألم.. تحسّس الجرح.. أدار وجهه نحو الطريق رقم 3، رمى بطبقة اللوح على اللهب.. التقط سكّينا من بين سكاكين المطبخ، رشقها في حزامه وثبّتها جيّدا.
كان حافيا يتلذّذ البرد من باطن قدميه.. انتعل حذاءه، حذاءه الذي لم يستبدله منذ زمن طويل.
غادر المطعم وسار متمهّلا مسافة طويلة.. توقّف.. استوقف السيّارات لكنّ السيّارات تمرّ ولا تتوقّف.. رفع يده محيّيا، لا أحد يردّ التحيّة.. قبل أن يستأنف السير خلع حذاءه ومشى حافيا.
تفّقد السكّين، مرّر على نصلها الحادّ أصابعه الخمس.. هاهو يتّجه من جديد نحو العاصمة وفي حنجرته غصّة وفي الكتف ألم.. سوف يقتلع قطعة الصلصال من فمها، ينزع حذاءها ويضع حذاءه في قدميها، يلفّ قطعة الصلصال في الملفّ الورديّ، وحين يضع قدمه على الطريق رقم 3 سيرمي بقطعة الصلصال إلى الكلاب.
انتهت القصّة
عبد القادر بن الحاج نصر
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا