"الزمان الوجودي" في الفن التشكيلي بين التصوّر الأوروبي والتصوّف الشرقي:فنون النسيج المعاصر نموذجا
إعداد: الباحثة فاطمة بلغيث معتوڨ/ أستاذة متعاقدة بالمعهد العالي للفنون والحرف بالقصرين- جامعة سوسة
المقدمة:
"إنّي أكتب هذا النص التحليلي وبداخلي شعور أنّ هناك جسد يقف عند منطقة حياد بين فكرة تأتي وفكرة تروح لم أستطع مسك الزمن لأنّي كنت بصدد بناء فكرة"
جميعنا نخضع لمرور الوقت، وكلّ واحد منّا يشعر ويدرك ذلك بطريقته الخاصة" "
هذا الزمان الذي نعيش فيه واللحظة الكائنة بيننا الآن هنا هل يمكن أن نمسك بهما من طرف؟ لا، لأنّ الزمان مادّة سريعة الزوال و ليست ملكيّة جماعيّة، إذ لكلّ فرد لحظة زمان خاصّة به داخل فضاء واحد يتقاسمه جماعة. لكن هذا الزمان اللّامرئيّ يمكن لأي ممارس للفن أن يمسكه داخل نص تشكيلي أو مسرحي أو روائي ويقبض عليه متلبّسا هاربا عبر استعمال وسائل وتقنيات وموادّ فنية متعدّدة بتعدّد مجالات الفنون.
تعالج هذه الدراسة مشكلة "الزمان الوجودي" في العمل الفنّي التشكيلي. هذا المصطلح الذي اقتبسته عن محاضرة ألقاها الفنان التشكيلي العراقي "شاكر حسن آل سعيد" في جامعة بغداد سنة 1966 وقد اقتبسه بدوره عن عبد الرحمان بدوي.
ولا يبتعد هذا المبحث التأويلي الذي سننخرط فيه عن المهاد الفينومينولوجي الفلسفي باعتبار أنّ "الزمان" قد خصّه بالنظر العديد من الفلاسفة والمفكرين زمن ملاحقة الحكمة والحقيقة، ولا تزل الفلسفة الحديثة تثير فكرة الزمان وتلاحقها في شتّى سياقاتها. ولا يبدو طرح موضوع علاقة الزمان بالفنون أمرا يسيرا يمكن إبداء الرأي فيه دون الاستناد إلى تجارب فنية ذات علاقة بالفضاء والزمن في نفس الوقت، فالزمان والوجود الذي هو الفضاء يشكلان معا سؤالا واحدا. سنستند في بحثنا على أعمال الفنانة الفلسطينيّة "منى حاطوم" وأعمال الفنان البصري الياباني نوبوهيرو ناكانشي.
ينفتح هذا البحث في الجانب الاصطلاحي على مصطلحين أساسيّين، وهما المكان والزمان وما بينهما لقطة "روح مطلقة" تعرض نفسها على مدى الزمان الأبدي خلال العمليّة الفنية التي تعتبر لحظة من لحظات التطوّر والتثاقف بين الذات (الروح الشخصية المطلقة)، والفضاء والزمن الذي في طوره للانقضاء. كيف يتعامل الزمان الفني مع النص التشكيلي؟ ؟ كيف يكون الأثر الفني التشكيلي الوعاء القادر على احتواء أزمان من أنواع شتى؟ هل الزمان في الفعل التشكيلي وجوده مطلق ومستقل عن المادّة والتقنية أم أنّه متّصل بهما؟
1-الزّمان الوجودي في الفن التشكيلي:
إن الفن التشكيلي فنّ المكان بامتياز. ويقول شاكر حسن آل سعيد "الفنون التشكيلية فنون تعتمد على المكان والأبعاد لبناء العالم الفنّي، وأمّا الشعر والرّواية والموسيقى والغناء فهي فنون زمانيّة"وكأنّ للمكان في الفن التشكيلي عند حسن شاكر أبعاد تقوم على مجموعة من العلاقات وظيفتها اختزال الخط داخل اللوحة إلى أصغر وحدة وهي النقطة، وإذ أكّد شاكر حسن عن رفضه للبعد الثالث في اللوحة، فهو لم ينفي أن يكون لهذه الأخيرة زمنا خاصا بها فهو يميّز بين زمنين مختلفين للأثر الفني وهما: الزمن المتخفي، (زمن تعتيق العمل الفني)، وزمن المشاهدة (زمن المتلقي). غير أنّ الزمن "الآن" للوحة هو الأهمّ بالنسبة إليه. إذ رغم امتلاك الفنان للحاضر (الآن) إلا أنّه قد يتعالى عن مواصفاته لتصير المادة التي يلامسها الفنان هي الزمان عينه ويقر فرانكستال بأنّ الفنّان "يخترع المادّة التي يحتاجها لتعابيره"ويفيد هذا القول كون العمل التشكيلي المعاصر ليس فقط مجال لاكتشاف مواد جديدة فحسب وإنما هو أيضا مجال للتأمّل المطلق واقتناص لحظة زمنية.
وفي هذا السياق ندرك تواجد اتجاهان في تحديد مفهوم الزمن، "أحدهما يقول إنّ للزمن وجود مستقل عن المادّة وهو مطلق وأنّه حقيقة وليس فعل الذهن والثاني يقول أنّ الزمن مطلق فلسفيا، ونسبي فيزيائيا أي أنّه يتوقف على حركة الأشياء في الكون".
- الزمان:
"الزمان" في المطلق اللغوي يرشّحه ابن منظور في اللسان: "اسم لقليل من الوقت أو كثيره.. والزمن يقع على الفصل من فصول السّنة وعلى مدّة ولاية الرّجل وما أشبه. وأزمن الشيء: طال عليه الزمان وأزمن بالمكان: أقام به زمانا". فالزمان وما يعادله من لفظ الوقت والدهر هو حركة متّصلة بوقائع وأحداث يعيشها الإنسان.
انعكس هذا التعريف اللغوي على وجهة النظر الاصطلاحيّة لدى المفكرين والفلاسفة وبعض المتصوّفة اللذين نادرا ما استخدموا لفظ الزمان بل يتداولونه تحت مسمّى "الوقت" الآني أي "الآن الحاضر" منفصلا تماما عن الماضي والمستقبل. ويتجلّى المنظور الصوفي لمصطلح الزمان كما بيّنه محمد عابد الجابري في كتابه بنية العقل العربي من خلال ركيزتين:
1) القطيعة مع الماضي والمستقبل والاستغراق في الحال فيكون الوقت بالمعنى الصّوفي نفيا للزّمان الطبيعيّ أو النفسي.
2) فقدان الاختيار والإذعان لنوع من الجبريّة.
وبعيدا عن الجبرية الصوفية العابدية، فقد اعتبر عبد الرحمان بدوي الزمان ضمن خطابه الفلسفي بمثابة الأساس للوجود، وارتأى فيه هيدجر السؤال الأفق الذي يخرج منه سؤال الوجود، أو هو الأفق الذي نطلّ منه على مسألة الوجود.ففي كتابه الوجود والزمان يرى هيدجر أنّ الموجود البشري هو السبيل الوحيد لفهم حقيقة الوجود.وبأنّ المهمّة الرئيسيّة للسؤال عن الوجود تقوم بالأساس على تحليل الآنية ويتّخذ الزّمن في المنظور الإغريقي بعدا دائريا الموافق للحركة الدائريّة للأفلاك، وهو لدى الفئة المسيحيّة متّصل متصاعد له بداية ونهاية متّصلة ببداية ونهاية الإنسان من الخلق إلى محور الخلاص. ويعتبر ابن عربي الزّمن من الوهم لا حقيقة له مقطوع الصلة بالماضي وغير مستشرف على المستقبل وفي ذلك علامة على انحباسه في نقطة معيّنة لا تدرك عبر العقل وفي ذلك معنى توهّمها.
ماهو الزمان الوجودي في الفعل التشكيلي؟ هل هو اللحظة المنقضية الغابرة التي لا تعود ؟ أم هو تمثّل للحركة داخل الفضاء؟
- الزمان الوجودي:
يقول عبد الرحمان بدوي: " وجود الإنسان نسيج من الواقع والإمكان، يحاك على نول الزمان. فالوجود نوعان، وكلاهما يطلق بعدّة معان: وجود مطلق، ووجود معيّن". الوجودية هي لحظة خاطفة من حياة الإبداع وإمكانية لتحقيق الذات حسب هذا الفيلسوف والزمان الوجودي لا يدرك إلا بوصفه تجربة معيشة، أي أنّه شيء ندركه بواسطة الذات. يقول نزار شقرون: "يتأرجح الزمان الوجودي بين التصوّر الأروبي، وبين التصوّف الشرقي الذي يعتبره وقتا".
نستشف في هذا القول الذي يمرّ حيث الزمان التشكيلي، أنّه لا يمكننا الحديث عن تصور زمان عقلاني في الممارسة الفنية، بل نستبدل ذلك طوعا باستعادة لرؤيا ورؤى الفنان الذاتية. رؤيا الفنان تتمظهر خارجيا من خلال وجوده جسدا يتحرك بين الإيجاب والسلب، يتموقع ماديا ويتلاشى روحيا.وعند نقطة وجوده يتجسّد ويتحدّد معنى الزمان التشكيلي الخام، (الخالص)، حيث تكون فيه آلية الحدس الوسيلة الوحيدة القادرة على إدراك هذا المعطى.
إنّ هذا الحدس الذي نقيس به درجة الزمان الفنّي يعتبر وسيلة مزدوجة لها زرّ إحساس بصري(إنساني) وزرّ آخر يكون فيه القياس في حالة غيبوبة مطلقة،( لا إنساني). ويرى شاكر حسن آل سعيد الفنان العراقي أن الفن له صفتين متلازمتين "أنّه غير مباشر وغير واقعي وهذا ما يدعو إلى التأمل الزماني".
2) الزمان والمكان في بنى الفعل التشكيلي:
لم يعد الفن المعاصر قائما على تجميد اللحظة في وضعيّة أو عند حدث معين، فالزمن ينتشر بسرعة حتى لا نكاد نلامسه إلّا بصريّا. ولمّا اهتدى الفنّان أنّ إدراكه البصري قد تغيّر وبأنّ العين التي يرى بها العمل الفنّي قد غرقت في التوتّرات التي يخلقها الشكل ودينامية الخطوط الثلاثية الأبعاد والمسطّحات وآثار العمق، صار يهتم باستجماع أجزاء الأثر الفني ويصنع لعمله زمانا ومكانا خاصا به ليتمكن من تحديد مساره. وبما أنّ الإدراك البصري يعني المسار الخاص الذي يستغرقه لمشاهدة اللوحة تحوّلت الموجات البصرية وحركة العين لعدسة كاميرا إلى "ديمومة " La durée، والديمومة تعني الاستمرار، وهي في جوهرها ذاكرة فيها حفظ للزمن المنقضي في الحاضر، وهي حقيقة فلسفية انتهى إليها برغسون في نظريّته عن الزمان، ووجد فيها العديد من الفنانين تجاوبا كبيرا مع تصوّراتهم باعتبار أن الحاضر والزمن المنقضي الآن ليسا تعاقب لزمنين بل هما زمن واحد يتواجد بصفة مشتركة. إذ تحيل كل لحظة منقضية لحاضر آتي فورا وهو زمان مخروطي دائري يشبه حركة النسيج حول النول ما إن تضمّ خيوط اللحمة إلى خيوط السداة يمرّ زمن يمكن تسميته ب"الزمن الصّنعي" الذي ندعوه بالساعة كما ورد على لسان نزار شقرون في كتابه "شاكر حسن آل سعيد ونظريّة الفن العربي"،وهو نفسه الزمن الخاضع لتيّار الديمومة المقتصر على نوع من الانتشار الزّماني الموازي للانتشار المكاني المطلق. نؤكّد هنا إذن على مسألة الفعل التشكيلي ودوره في إنشائية العمل. النسيج التشكيلي المعاصر وهو بصدد الحياكة يميّز بين عالمين، "عالم الواقع" بأبعاده الهندسية المشدودة للنول الحديدي، وهو عالم موجود خارجيّا. و"عالم فنّي"، وهو عالم ثنائي الأبعاد قائم في أساسه على المادّة الخام والّلون داخل فضاء المنسوجة وذلك حسب تعبير ناثان نوبلر: "يلعب اللّون دورا ثانويّا في مفردات الفن بالنسبة إلى اللّذين يمارسون فنّا ذا أبعاد ثلاثة"وهي مصطلحات اقتبستها عن تصوّر الفنان العراقي شكر حسن آل سعيد بخصوص "العمل الفني" (Œuvre d’art)و مصطلح "صنيع فنّي (objet d’art). ، يقوم الأوّل على المتعة ومغامرة الخلق وقيام الثاني على المنفعة...لكن مصطلح العمل الفني قد شهد نقلات كثيرة ودلالات مفهوميّة متعدّدة خلال القرن العشرين، منذ صدمة مبولة دوشمب.
إنّ الّلون بوصفه مادّة هو مكوّن أساسي في العمل ذي البعدين وهو وسيلة لتنمية كلّ المكوّنات الأخرى كالشكل والتركيبة والتقنية التي تحيل إلى العمق الذي يفتح على البعد الثالث الوهمي. الشكل ذي البعدين لا يمكن أن يكون بدون الّلون وكذا الشكل ذو الثلاثة أبعاد، فاللون حين يوحي بالعمق يحوّل سطح العمل الفني إلى حضور حقيقي يستولي على أبعاد جديدة بما فيها الزمان والمكان الحاضن للعمل، ويقول رومان أوبالكا: " العمل الفنّي لا يتطلّب مكان، المكان أيضا هو عمل فنّي". كانت نظرية أوبالكا للفضاء تمتدّ عبر الزمان باعتبار أنّ الزمان هو الفضاء الكامن في العمل الفنّي والحافظ له في نفس الوقت".
3-المنسوجة وانقضاء الزمان في المكان:
بالعودة لفضاء المنسوجة الثنائية الأبعاد فإنّ الحياكة والممارسة النسجية عبر تقنية اللحمات الممتدّة، تكشف عن ضرورة إدراك البعد الإنساني اللّاواعي باعتبار أنّ حركة اليد مع مرور الزمان تصير حركة تلقائيّة تمرّر المحتوى الباطني للوعي البشري. هذه العمليّة ونعني بها استمرارية اتّجاه النّسق الخطّي عبر مادة الخيط في حركة تبدأ من اليمين وتنتهي عند اليسار، قد تكون فلسفيا هي الزمان نفسه الذي يشبه الديمومة يعني الاستمرار. وبقدر ما تجري حركة اليد يمرّ الوقت ويضحى الفضاء من حول الفنان متصحّرا يختزل زمان عمليّة النسيج بمجرّد حركة الخيط بيد الصانع والتي تبدأ نقطة في حركة لتصبح خطّا، فالمنسوجة تولد تدريجيّا على نحو متتال وذلك ما يمنحها الزمنيّة، ومما لاشكّ فيه فالعمل الفني التشكيلي هو ممارسة وفعل في الفضاء المكاني قبل أن يتواجد كشكل، والزمن خلال عملية النسيج هو عمليّة تأويل الحاضر. الزمان إذن هو تجربة معاشة قبل أن يكون إدراكا عقليا محسوسا، والأثر الفني هو جماع لحظات متتالية. فالفنان لا ينسج عمله في لمحة واحدة وبشكل كلّي بل هو ينسجها تباعا بينما يتلقّاها المشاهد كاملة تمثّل الحاضر الماثل أمامه الآن، وهذا الحاضر هو ليس حاضر المنسوجة التي تمّ تشكيلها في أزمنة مختلفة متقطّعة بل هو حاضر المتلقي. نستنتج من خلال هذا الافتراض أنّ زمان أيّ عمل فني يصعب تحديده بشكل دقيق، إنّه زمن هارب منفلت لا يمكن تعيينه.
4- الزمان في الفعل التشكيلي بين حضارة الشرق الأوسط والشرق الآسيوي من خلال قراءة لأعمال منى حاطوم والفنان البصري الياباني نوبوهيرو ناكانيشي
لماذا يمثّل الزمان "دهرا" في الحضارة الأوروبية ويمثّل "وقتا" في حضارة الشرق الأوسط؟
أقترح هذا السؤال الذي اقتبسته في الواقع عن فكرة لحسن شاكر آل سعيد في كتابه بعنوان "دراسات تأمّليّة" ويعتبر هذا الفنان من المتصوّفة العراقيين حيث يقول فيها بإيجاز عن الزّمن الوجودي في العالم التشكيلي: كونه عالم محسوسا يدرك بالبصر وأنّ وجوده المادّي هو منطلق وجوده الروحي. هذا الوجود نتعرّف عليه عبر الحدس وليس بالفكر...وبالتالي ينحاز هذا الفنان إلى الاعتماد عن تعريفات المتصوّفة للزمن.
حسب لوي ماسينون، فإنّ الزمن في الحضارة العربية الإسلاميّة "هو مجموعة من الأوقات".
إنّ العمل الفنّي مكتملا هو عبارة عن لحظة تجسّد ملموس يمكن لمسه باعتباره إطار مرئيّ بامتياز. وهذا المرئيّ لا يستبعد لا محالة روحيّة الفنّان، وهو في الحين ذاته قائم على الوعي بوجود حقيقة ما داخل فضاء العمل الفني مهما كان نوعه. وفي تبصّر العمل هناك استكشاف للزمن بواسطة عناصر بناء اللوحة وجميع مكوّناتها المادية، و برؤيا الفنان الزمنيّة التي تخترق بنية الأثر التشكيلي. ومع ذلك فإن الوجود الزمني ليس من طبيعة الفن التشكيلي لو أخذنا بعين الاعتبار تناقضاته بين الحضور المادي والضياع الروحي.
5- كيف يتمّ إذن التعبير عن الزمن بواسطة الوسائل التشكيلية أو عبر الوسيط التشكيلي؟
- أعمال منى حاطوم النسيجيّة: المادّة في خدمة عامل الزّمن
هل يدعم النسيج بأسلاك حديديّة البعد الزمني داخل العمل الفني؟
إنّ الخامة الجديدة متى دخلت حقلا تشكيليا جديدا فهي تعبّرعن موضوعيّة العالم الخارجي للفنان، تربط الحالة الراهنة الخاصّة لهذا الفنان بالماضي وبالمستقبل أيضا.وتدعم الأسلاك الشائكة في أعمال منى حاطوم البعد الزّمني في العمل الفني، طالما لا توجد العناصر التشكيلية الأخرى مثل الخطّ والنقطة واللون والشكل في إحداث قطيعة بين ماضي الفنان الخاص ومستقبله.
وتتّخذ عمليّة ربط الأسلاك الحديدية وتشبيكها ببعضها البعض المعنى الزّمني. إذا استحالت عمليّة تكوينيّة تبني لحدث تشكيلي يقوم على وعي الفنان برسم موقف ما. وعملية ربط الأسلاك أخذت معناها الزماني حينما استحالت إلى عقدة بين سلك وآخر. وسط هذه العقدة تعيش منى حاطوم تجربة حلم استرجاع الوطن المسلوب المحاصر بالدبابات وعلى إثر التقاء سلك بسلك ثاني نقرأ فترة زمانية متشابكة،مقطوعة عن الوجود الواعي للفنانة كموقف تتخذه ما بين تصميمها ومصيرها وكما نعلم فإنّ هذه الفنانة التشكيلية تعيش وجع الانفصال عن الوطن الأمّ فلسطين، وتعتبر إقامتها بلندن بمثابة الكابوس السياسي في قالب فني. ويتجسّد هذا الكابوس في اختيارها الصعب والخطير لمادة كهربائية صاعقة مصنوعة من الأسلاك المكهربة، تكتنز في نفس الوقت بجمالية تشكيلية نادرة.
وفي عملها تحت عنوان "قياس المسافة"، كانت منى حاطوم تؤدّي واجب حبّ الوطن متنقّلة مسافات طويلة بين برلين ولندن ولبنان عبر هذه الأسلاك الكهربائية الشائكة. ويقف بها الزمن عند حدود أراضي فلسطين وطنها الذي يمنع عليها دخوله. الزّمن في أعمالها المجسّمة والنحتيّة والتركيبيّة، هو فكر وفلسفة قبل أن يكون فكرة عمل تشكيلي.
مثل هذه الأقفاص الحديديّة الضخمة المفتوحة على الزمن المطلق المتنوّعة الشكل والمضمون، كلّ شكل منها يعبّر عن فكرة وللمتلقي حرية قيس المسافة بينه وبين أسياخ من الحديد المتعامدة والمكعّبة.
تبدو منى حاطوم في أعمالها التي تقرب لتنصيبات النسيج، كمن يقف أمام معبر رفح على خطّ البداية والنهاية في آن واحد، إذ هي تبدي تفاعلاتها في اللحظة الآنية التي تقف فيها أمام أعمالها التجريديّة السريالية، حتى أنّ الزّمن قد بدا مهملا بلا قيمة لا بداية له ولا نهاية. ومجموعة الأقفاص التي كالسّجن ينحصر بداخلها العديد من الأوقات.هي كالزّمن المتوتّر الذي يظهر لنا من خلال وحدة التصميم وتشابه التركيبات المتشابكة الأسلاك دوما.
كان الرهان الأساسي للمعارض التي تقوم بها منى حاطوم هو تحويل وجهة التعامل مع الفكرة الفنية واستبدالها بالتجربة الوجودية التي يعيشها الفرد فتصير التنصيبة في أي فضاء وأي زمان ذات حضور حسّي وليس مجرّد حامل لفكرة . هذا الحضور الحسّي يصبح بفضله العمل الفنّي موغلا في الزّمانيّة، لصيقا بما يعتري الزّمن من تحوّلات. فالزمان في تنصيبات منى حاطوم هو زمان العمق الباطني الذي يستحضر فيه الفنان ذاتيّة المتلقّي،زمان تتجسّد فيه اللحظات الآنية والمعايشة اليوميّة لدروب الآلام الفلسطينيّة.
نستنتج من خلال أعمال الفنانة الفلسطينية منى حاطوم، أنّ أثر الفكر الشرقي المعاصر أدّى إلى خلخلة مفهوم الزمن من خلال قوّة مضمون الأثر الفني. ويقول الباحث التونسي نزار شقرون: "أنّ العمل الفنّي كي يكون زمنيّا عليه أن يتخلّص من البعد المضموني ويتحوّل من مدار العنصر الفنّي إلى مدار القيمة".
ولئن جاء سياق هذه المقولة في الحديث عن خصائص الزّمن في الأعمال ذات البعد الواحد، فإنّي أحاول ربطها هنا بقيمة تنصيبات حاطوم التي حققت فعل الزّمن الفنّي من خلال ربطها لهذه الأطراف الثلاثة: المجسّم الفنّي والمتلقّي والفنّان.
إنّ هذه الأطراف الثلاثة تتواصل في لحظة فناء عن العالم الخارجي الذي يتمثل في الواقع المعاش أي الزّمن كمجموعة أحداث متتالية.
- الزمان الّلامرئي من خلال قراءة لأعمال الفنان البصري الياباني نوبوهيرو ناكانيشي
في حديثه عن معرضه المشهور تحت عنوان "رسوم الطبقات"، كتب هذا الفنّان على موقعه الرسمي "إن التقاط تراكم الوقت كنحت يسمح للمشاهد بتجربة سرعة زوال الوقت". وهذه الأعمال هي عبارة عن صور فوتوغرافيّة التقطت في فترات زمنيّة مختلفة وتمّ نقلها من عالم الفوتوغرافيا، لرسوم من الأكريليك ثنائية الأبعاد مربّعة الشكل، ووقع تصفيفها اللوحة تلو الأخرى بشكل مسترسل يفضي إلى تتابع الأشكال وسط ساحة العرض، حيث يمكن للزوّار الدخول وسط العمل عبر المرور من تحته. وهو أمر يمكّن المشاهد من معايشة الزمن من خلال حركته الفعليّة بين الّلوحات. وتحاكي هذه التجرية في رمزيتها حركة الحدائق المعلّقة باليابان.
ارتبطت أعمال هذا الفنان البصري الياباني بالزّمن بشكل تجريديّ، وكأنّه يعمد في أعماله إلى مسك الزّمن بيديه. ويدعونا مشروعه الآتي إلى مسك الزمن من زوايا نظر مختلفة، حيث تجسّد كلّ صورة من الصّور المعروضة لحظة من لحظات الزمن المنقضي فالزمن في هذا المشروع وإن بدا معلّقا بين السماء والأرض إلّا أنّه يمكن للمشاهد أن يرى مرور الزمن في لمح البصر. وتفضي عملية التقاط تراكم الوقت بين اللوحات بتجربة سرعة زواله. وكأنّ هذا الفنان يدعونا لاقتناص لحظات التقاء الزمان والمكان في هذه السّلسلة من الأعمال أقصد اقتناص الروحي واللامرئي، وتمثيله فنّيا، حتّى أنّ الصور عندما ينظر إليها من الزاوية اليمنى، تظهر الصور و كأنها تتلاشى ببطء مع بعضها البعض قبل أن تختفي تماما لتعطي في النهاية شكلا ضبابيا.
بدت أعمال هذا الفنّان وكأنّها ذات "زمن منظوري" وهو مصطلح ردّده شاكر حسن آل سعيد في حالة تكرار العناصر التشكيلية المولّدة للعمق البصري. هذه الصورة الضبابيّة نتيجة تشابه اللوحات المتلاصقة تخلق نوعا من التوتّر عند المشاهد فلا الزمن ينتهي ولا المكان يتلاشى .وهذا الزمن الذي يدعوه شاكر حسن بالمنظوري هو زمن لا يتم رصده عبر الوازع الحسّي بل بالتجربة الصوفية.
الخاتمة:
لقد مثّلت الكتابة في موضوع الزمن في الممارسة الفنيّة التشكيليّة، حقلا اختباريّا للأسئلة التي لا ينفكّ الباحث يبحث عنها في إطار الدراسات التي يقوم بها. وممّا وقفنا عليه أنّ البحث في الزمان المنقضي والحيني بمختلف تجلياته يضاهي محاولة المسك بالزمن وهو في طور الحركة.
و قادنا هذا الموضوع الذي يعالج عدّة قضايا على صلة ب"الحيني" في الممارسة التشكيلية المعاصرة، إلى الوقوف على نتائج اساسية في هذا السياق الإشكالي: وهي أنّ هذا الخطاب الذي ينطلق من العمل الفني لفهم مسألة الزمن داخل فضاء الأثر هو خطاب متلبّس، يحتمي بالفلسفي كلّما ضاقت عليه الرؤية الواضحة لتفسير مدى التفاعل بين الفنان والفضاء والمادة لصنع زمن خاص باللحظة الكائنة. هذا الزمان لا يبقى منه سوى آثار زمن افتعلها فنّان هو إلى زوال، حيث لا يبقى من بعده سوى أثر فني هو عبارة عن مؤشّر زمني لحقبة "كرونولوجيّة" في سجل التاريخ وصيرورته. المراجع:
1/- د. عبد الرحمن بدوي (4 فبراير 1917 - 25 يوليو 2002 القاهرة)أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب في القرن العشرين وأغزرهم إنتاجا، إذ شملت أعماله أكثر من 150 كتابا تتوزع ما بين تحقيق وترجمة وتأليف، ويعتبره بعض المهتمين بالفلسفة من العرب أول فيلسوف وجودي مصري، وذلك لشده تأثره ببعض الوجوديين الأوروبيين وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر.
2/- د. نزار شقرون، "شاكر حسن آل سعيد ونظرية الفن العربي"، تقديم شربل داغر، دار محمد علي للنشر، ص.226.
3/- « L’artiste créé la matière dont il éprouve le besoi pour s’exprimer » FRANCASTEL Pierre, Art et Technique au XIX Emme et XX Emme siècles, éditions de Minuit, 1956, p.216.
4/- حكمت مهدي جبّار، إشكاليّة الزمكانية في الفنون التشكيليّة"، مركز النور للدراسات، نشر بتاريخ 29/08/2010.
5/- ابن منظور: لسان العرب – ص. 199. 6/-أنظر: محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي،- مركز دراسات الوحدة العربيّة- الطبعة الثالثة 1990
1) د. عبدالرحمان بدوي، "الزمان الوجودي"، دار الثقافة بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة، ص. 5.
7/- د. نزار شقرون، "شاكر حسن آل سعيد ونظرية الفن العربي"، تقديم شربل داغر، دار محمد علي للنشر، ص. 26.
8/- ناثان نوبلر: حوار الرّؤية- ترجمة فخري خليل- المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر – الطبعة الأولى 1992- ص. 93.
9/- د. نزار شقرون، "شاكر حسن آل سعيد ونظرية الفن العربي"، تقديم شربل داغر، دار محمد علي للنشر، ص. 233.
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا