د. رجاء غالي باحثة وأكاديمية من العراق
لقد ارتبطت (العلامة) بفكر الإنسان بوصفه كائناً مدركاً لها , وهي لا
تعد شيئاً جديداً في عالم الفلسفة، بل كانت موجودة عند الأقدمين وقد استخدمت في
الفكر العراقي القديم ، ويعد المكتشف الأول لها وذلك لكونها ظهرت في الفكر العراقي
القديم على شكل عفوي ومن ثم ذاتي و موضوعي حيث أخذت عدة مستويات كان الفعل البشري
محورها , وأن كل ما يحيط بنا من أشياء يمكن عدها نموذجاً من نماذج العلامة فهي
موجودة في كل المجالات وتحت جميع الأشكال .
انتمى الفنان محمد مهر الدين(1938-2015) إلى جيل
الستينات أو ( مرحلة الستينات ) التي كانت غنية بالتحولات والمواقف التي
كان لها انعكاسها في نسيج الفن بما أغناه ومنحه بعداً وثائقياً وفنياً فريداً،
وخاصة الأحداث السياسية.
فقد سعى الرسم المعاصر في العراق إلى تجاوز أطره الاجتماعية لخلق
المناخ الفني المناسب، والفن بهذا المفهوم ليس فقط انعكاساً، بل انه يدخل في صميم
الحياة فأفضل الأعمال هي التي تحمل بذاتها العاطفة الوطنية أو بعض الأفكار
السياسية.
فأخذ الفنان يبحث عن الحل الإبداعي،من خلال التمرد على الفن التقليدي
السائد، واعتماد الحرية في التعبير
عن الأفكار الإنسانية ، والاهتمام بالسطح التصويري من خلال الاشتغال على طاقة
الأشكال ودلالاتها الرمزية .كما تخضع الفكرة إلى حركة الشكل في رسوم الفنان ( محمد
مهر الدين ) فيصبح الشكل وعاءً لها، فهو يعبر عن المضمون الدال على معاناة
الإنسان ويسعى الفنان للتعبير عن أفكاره وعن الحالات النفسية بطريقة عقلية ورمزية
وهي كعلامات تعبر عن الواقع الموضوعي بأشكال واضحة القصد وبالوقت نفسه يكون لهذه
الأشكال موضوعات أخرى.
هناك عدة مراحل أسلوبية في أعمال محمد مهر الدين.. فقد أسس الفنان
العراقي محمد مهر الدين هندسة لوحاته
بمستويين , المستوى الاول هو مستوى
سطحي من خلال التقسيم الثنائي او التربيعي
أو الافقي لسطح اللوحة ومستوى غائر من البناء الكثيف. إن اللوحة عند الفنان محمد
مهر الدين مرت بعدة مراحل أسلوبية منذ عودته من الدراسة في بولونيا، وذلك بعد أن
درس الرسم في بغداد على يد الأستاذ الفنان ( فائق حسن ) الذي أثر فيه
كثيراً وخصوصاً في تكوين العمل من ناحية الألوان وقيمتها بوصفها جزءاً من مضمون
العمل الفني، و قد أدرك الفنان مهر الدين أن
قيمة الفكرة لا تكمن في الفكرة بل في الصياغة وفي الأسلوب الذي يتضمن رؤية الفنان
وفلسفته.
تعمد الفنان مهر الدين في استخدام تقنيات جديدة في تنفيذ أعماله بعد
عودته من الدراسة في بولونيا، فقد بدأ هذا الفنان يستعمل المواد المختلفة وينظمها
باشتغاله على السطح التصويري بشكل رائع، فقد أدخل في أعماله الرمل وبرادة الحديد
ونشارة الخشب والدلك والحرق، وعلى هذا المستوى من التقنية أقام الفنان محمد مهر
الدين في عام 1967 معرضاً شخصياً وهو الثاني في بغداد لأن الأول كان مكرساً لفن
الكرافيك عام 1965 وأن هذا المعرض أي المعرض الثاني أقامه الفنان على قاعة ( أيا )
وقد أثار هذا المعرض دهشة الحاضرين لأن محتوياته ذات صفة تقنية غير مألوفة في
الحركة التشكيلية العراقية. يبني مهر الدين لوحته في مستواها السطحي الى مستوى سطحي
تصويري لوني غائر مليء بالانقطاعات في جسد اللوحة ومليء بالخروم و الثقوب والثلمات
مما جعل انجاز الفنان عباره عن انقطاعات للمساحات اللونية.
أما المرحلة الثانية التي مرت بها لوحة محمد مهر الدين والتغير في
استخدام التقنيات، فقد أدخل هذا الفنان تقنيات مختلفة كأسلوب الكرافيك والنحت،
وكذلك استعمل الفوتوغراف السالب والموجب مع الرسم، وهذا ما قدمه في معرضه الثالث
عام 1978، وفي هذه المرحلة أصبح هنالك تحول من الصورة الآيقونية إلى الهندسية أي
أن الأسلوب قد تغير لدى الفنان ليس في التقنيات المستخدمة فقط، وانما في الرسم
واستخداماته للرموز، فقد أصبحت الرموز المستخدمة في هذه المرحلة رموز هندسية،
نظريات رياضية، أي أن الهيمنة هي هيمنة هندسية وهذا ما نشاهده في هذه اللوحة ترجع
إلى معرضه والذي يحمل عنوان ( غريب هذا العام ) عام 1978
المرحلة الثالثةالتي بدأ الفنان محمد مهر الدين يميل إلى المضامين
الاجتماعية ان كانت محلية أو عالمية وهذا يعني أن الاستعارة عنده للرموز والعلامات
كلها مباحة لديه من أجل تحقيق الهدف والفكر داخل العمل، فهو يرى أن أعماله ليست
تناقش أو تطرح مشاكل مجتمعه فقط بل هي أعمال عالمية فهو يلاحق أي اضطهاد للإنسان
في أي مجتمع، أي أن قضيته ليست قضية تخص مجتمعه بل العالم، لذا فإننا نشاهد في
لوحاته الكثير من الرموز العالمية وكذلك التاريخية، ومن حضارات أوروبية قديمة ،
فهو في هذه المرحلة قدم أعمالاً كثيرة ضمن المعارض والمهرجانات هذا فضلاً عن
المعارض الشخصية.
وقد اعتمد الفنان محمد مهر الدين في هذه المرحلة على الدمج بين
أشكال إنسانية ورموز وكذلك الكتابات غير المقروءة مستوى اشاري سطحي يشكله حشد من العلامات التي
بعضها مقروء وبعضها غير مقروء او مضمر
الدلالة كإشارة الالغاء والرفض( x ) و هي اشارة كرسها مهر الدين منذ مرحلته المشخصة في
السبعينات ..اما بالنسبة للإشارات المقروءة فقد ظهرت من عبارات مقروءة وذات معنى
الى حروف مقروءة عربية و لاتينية و لكنها لا تشكل نصاً ذا دلالة لغوية
ورغم اختيار مهر الدين لتلك العلامات اختياراً واعياً في احيان كثيرة الا انه يدخلها مختبرة الشكلي لتتحول العلامة بعدها الى اشارة شكلية تنتمي الى شيئية اللوحة و عناصرها الشكلية و ليس الى نص لغوي مدون قابل للقراءة
هذا فضلاً عن أن المكعب وأجزاء من جسم الإنسان وشخصيات تاريخية مهمة
تنتمي إلى حضارتنا وكانت في هذه المرحلة تجارب قريبة إلى طريقة الكولاج مع بعض
الخطوط الهندسية وكذلك البقع اللونية التي استخدمها الفنان وبشكل سريع وذلك لكسر
حدة الهندسة التصميمية في اللوحة أي الدمج بين ما هو جسدي وبين ما هو تجريدي
والتجريد في هذه المرحلة أما أرقام (
علامات رقمية ) أو خطوط هندسية.
وقد شاهدنا هذا التغيير في المرحلة الجديدة التي جاءت امتداداً
للمراحل السابقة ونتيجة التراكمات الفنية والإمكانيات التي يمتلكها هذا الفنان في
المعالجات التقنية وكيفية التعامل مع العمل بكل حذر.المرحلة الرابعة في هذه
المرحلة التي اتجه الفنان فيها إلى الأعمال الورقية والتي تجعله يمارس وأثناء
تنفيذه لها حرية أكبر، وذلك لسهولة عملية الحذف والإضافة في تقنية التلصيق وهذا
التغير في الأسلوب والتقنية جاء نتيجة ملاحظة التغيرات والتطورات السريعة والتي
تحصل نتيجة التقدم في الإنجازات التكنولوجية.
أي أن النشاط الإنساني متغير ومتبدل وهو يتخذ أساليب متعددة وهذا يعني
بالنسبة للفنان التغير في الأساليب والتقنيات المستخدمة لكي تتماشى مع هذه
التغيرات في المجتمعات.
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا