باريسيّات : البطاقة عدد8
بقلم : مهدي غلاّب.
محطّات ، بطعم الشّرق والشوق..
بعد زياراتٍ متعدّدة حفظت حيًّا من أحياءِ باريس المشرفة على الضّاحية الشماليّة. حيٌّ نابض الحقيقة وغارق في الحكايات الشعبيّة الوافدة والفلكلور والمهرجانات اللّونيّة المتجلّية كل يوم بلا كلل ولا ملل، يحضر فيه كلُّ ما تشتهي النفسُ من موادٍ وكلُّ ما تحبُّ العين من ألوان ، بدءا من الحاجيات الأساسيّة إلى الكماليّات بثمن لا يقارن ببعضِ الدّول التي تنتجه أصلا، مثل الشاي والتّمرُ والقوارص بأنواعها والحرير والكتّان والفستق الإيراني وحتّى أنواع من المستحضرات التقليديّة و بعض المكسّرات ومنها الصنوبر الحلبي والصيني والهواتف المحمولة وبعض التقنيّات المتداولة الأخرى وغير ذلك كثيرٌ .. وهذا مربطُ الفرسِ .. وهو ما يدفعنا الحقيقة إلى النظر والتدقيق واستخلاص الفائدة المرجُوّة والتحقيق لمعرفة أدقّ الأمور وفصل المنفعة عن المضرّة وتحديد مسلك للسّعي ورسم اِختيار واضح للسنوات القادمة على الأقل . حتى لنكاد نزرع في المدينة السابحة في غربيتها وعلومها وأنوارها -وهي عاصمتها - البعض من بذور الشّرق ولربّما المجازفة بعدد بسيط من الإضافات المجازيّة المرجُوّة سيماونحن في معترك الشهر الكريم، ونجنح بخيالنا بعيد عن التعقيدات الواقعيّة لسهولة الحلم ومجانيّته من جهة ولما يحدثه من أثر للشساعة والآفاق في النفس وما يفتحه من مجالات ورديّة من جهة أخرى. فنصبح -الحقيقة- بمثابة عشّاق اِنطباعيين في بلد الإنطباعيّة وهذا بالطّبع أفضل من قنّاصة ومراقبين سلبيين بحيثُ أنَّ المرهق في رمضان بالخُصوص أوالمفلس أوالبخيل أو الأكول يتّجه شمالا، أوّلُ ما يتجاوز بوّابة "لاشابال" يدخل بعدها في عراك ومزايدات علنيّة مع باعة من كل طيف ولون عليهم ملابس مزركشة في غالب الأحيان ، تكثر ألوانها ، غير متطابقة مع المُحيط والمعمار سبيلا للظفر بفرص اِقتناء رخيصة وجيّدة في ذات الوقتِ .
تتجوّل في الطريق الطّويلة التي تصبّ رأسا في "مانتمارتر " مرورا "ببافيل"
والحيّ التّاريخي الذي يخلّد معارك التحرير ضد القوات الألمانيّة إبّان الحرب العالميّة الثانيّة "ستالينغراد" وما أدراك..عند الفرنسيّين، نسبة للمدينة السوفياتيّة الشّهيدة التي قلبت الحرب بدايات عام 1943 لصالح الحلفاء بعد ستة شهور من الصدّ، مُبشّرة بِانقلاب الموازين. دُون أن ننسى الحي الأُعجوبة الذي يزوره القريب والبعيد ولا يملُّ منه ساكنه. فلا يهجرُهُ الطّيرُ ولا يغفل عنه رومنطيقي في لوحة ولا شاعر في كتاب، حتّى ليكادُ يُنسينا سحر المشرق و أناقة المغرب بعراقة تصاميمه و"بقنطرة كريمي " ومعبر القطار العلوي (Viaduc ) الذي يعود بناؤه إلى بدايات القرن الماضي ( 1901) و ما زال يرتفع وينخفض بمرور البواخر مقسّما الأحياء إلى مناطق مفصولة وقد تحول إلى منطقة سياحيّة خلاَبة تفخر بها الدائرة 19 وفيها تم تركيز مسابح نهريّة عائمة عجيبة الأطوار أول ما تغطس تشدّك الأعشاب المائية اليابسة والعوالق الميتة "المتدلّية" في العمق. وأكاد أجزم أن فوائدها بعد الإستجمام تبقى علاجيّة لكنها مُزعجة لمّا تلتف على السيقان و تقيّد الذراع أحيانا وتدك الظهر. تحسّ ببرد شديد في البداية ولكن فتور الماء يجلبك فيما بعد. يشعر الفرد وكأنّه في حصص تدليك خاصّة متمدّد "بكابينة"،
أمام فتاة عشرينيّة "زرقاء" تسهر على الصّيانة و تعتني "بالمحميّات الطبيعيّة" وتطرد الألم بزفرة، وبداخل هذه الأحواض المتطورة المصنوعة من مواد متفاعلة ومتعايشة مع البيئة ، يكاد الفرد ينفجر ضحكا من فرط اللّمس في مناطق معيّنة تعرفونها ، حساسة للغاية بحيث أن مرور شعرة على مليمتمر منا يحدث قشعريرة عالميّة . هذا دون أن نمضي بعيدا في الحديث ونغفل المرور ”بجان جوريس ” وبخاصّة معجزة البواخر السياحية الخاصة القادمة من أغلب دول أوروبا المعروفة عبر القنوات المائيّة المتشعبة على اِمتداد مئة كيلومتر تقريبا (96 كم) والتي تمرُّ من تحت الأرض في مساحات معينة ومن فوقها الشجر والبشر والحجر والقطار وملاعب المضرب والسلّة والحياة في تواصل حتى لنكاد ننسى أحيانا -عندما نتربّعُ في حدائقها والحمام يتهادى على مقربة يهدل للنواعير حتى تدور، فيُفتح الباب لآلاف المتهافتين ، وهي فرصة محترمة طبعا لا نقارنها بفرصة حشر الدماغ البشري داخل الحجر الأسود في العتبات. تبقى مهمة وتذكاريّة لمشاهدة ”الطبقات المائيّة" في ثورتها على المعتاد. قلت نكاد ننسى أن هذه المنشآت المائية النهريّة تمرُّ من تحتِ أقدامِنا لترتفع بعد ذلك على مستوى سطح الأرض، تعانق الجزر
"المتسكِّعة" على ضفاف مفترق النهرين في مستوى نقطة « كي ديلا رابي" (Quai de la rapée ).
وقد صدق فيلسوف ومهندس النهضة رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1887)، عندما أورد في كتابه المعروف " تخليص الإبريز في تلخيص باريز" اِنبهاره بالحضارة الفرنسيّة وخاصة مدينة باريس وما تتمتع به من خصائص و مميزات تنويريّة فعمل على تعلّم الفرنسيّة ونقل زبدة العلوم ودفع بحركة التّرجمة، كما اِهتم بجمع عدد من العلوم والمعارف في الإقتصاد والإدارة والتعليم والصحافة بعدما اِنتبه إلى الهوّة التي بدأت تتسع بين الغرب والشرق من خلال الفرصة التي أتاحها له محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك لزيارة باريس في بعثةعلميّة دامت ستّ سنوات( 1826-1831)، رغم أنه تعرّض في بعض الأبواب لذكر الفروقات الأخلاقية والعقائدية فتحدّث عما وصفه بالكفر والفساد ا والمجون في المجتمع الفرنسي وأنه بطبيعة الحال لا يعتبر نفسه منهم . وهنا نجد أحد المقاطع الشعريّة التي اِستهلّ بها كتابه - رغم أنه لم يكتب الشعر- يحثًّ فيها المصريين على التصديق بواقع الأمر وعلى الإستيقاظ من النّوم بسبب أن زيارته لا تبتعد في الزمن عن حملة نابليون (1897) التي كان لدى العرب في زمنها بقية تركة تحفظ الوجه.
لهذا تمادى الناس وصعب التصديق باِنبلاج فجر آخر للغرب في وقت كان الشرق يوفر الأسباب سنة بعد سنة للدخول في صدفته ( قوقعته). ويقول المقطع :
وإذا كنت بالمدارك غرّا
ثُمّ أبصرتَ مُدركا لا تمارْ
وإذا لم تر الهلال فسلّم
لأناس ٍرأوهُ بالأبصارْ.
مهدي غلاّب /باريس
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا