الإطار الحضاري والتَاريخي لعجينة الزّجاج في تونس/سنيه الفارسي الإطار الحضاري والتَاريخي لعجينة الزّجاج في تونس/سنيه الفارسي

الإطار الحضاري والتَاريخي لعجينة الزّجاج في تونس/سنيه الفارسي

 


  1. الدكتوره سنيه فارسي*




  1. الإطار التّاريخي.

  1. العوامل التّاريخيّة المساعدة على ظهور الزّجاج

ينطوي تاريخ تونس على سجلَ حافل من الحقب التَاريخيَة المهمَة والفترات الزَمنية الثريَة بالأحداث ممَا يجعل هذه الأحقاب جديرة بالدَراسة والبحث والتَنقيب قصد استجلاء تفاصيلها وسبر أغوارها وتتبَع حركات تقدَمهاوالإشراق فيها. ومن بين هذه الفترات التاريخيَة الحضارة البونيَة. "تمتد العصور القديمة بالنسبة لكلَ بلدان الشمال الإفريقي من ظهور الفينيقيين حوالي أحد عشر قرنا قبل الميلاد إلى قدوم العرب في النصف الثاني من القرن السابع بعد الميلاد. وبصورة عامَة اقتسمت هذه الفترة الطويلة حضارتين اثنتين كان لهما عميق الأثر في تغيير ملامح القسم الشرقي من بلاد المغرب: وهما الحضارة البونيقية و الحضارة الرومانية..."

يقتضي بحثنا التوضيح والتبرير لما زخرت به هذه الفترة من تمظهرات فنيَة خاصَة، وأوَل فترات عهود قرطاج منذ تأسيسها 814 ق.م الذي امتدَ إلى نهاية 146 ق.م ، إنَ هذه الفترة هيَ بداية بحثنا فنَا باعتبارها مثَلت فترة ازدهار قرطاج بعد أن تحوَلت من مستوطنة تجاريَة إلى مدينة متوسَعة في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، التي تحدَد الرواية تاريخ تأسيسها على يد إحدى أميرات مدينة صور رفقة بعض رعاياها ، أنتجت على إثرها تنوَعات اجتماعيَة ودينيَة وثقافيَة. "فالفنَ الفنيقي جمع في طيَاته العديد من السمات الحضاريَة لفنون الشعوب الأخرى التي اختلطوا بها سواء كان هذا الإختلاط سياسيَا أو اقتصاديَا. فقد اقتبس هذا الفنَ عناصره من الحضارات القائمة في بلاد الرافدين وسوريا الشماليَة ومصر، وقد استطاعت فينيقية أن تصهر كلَ هذه الفنون في بوتقة واحدة لتخرج لنا فنَا مميَزا هو الفنَ الفنيقي".إذ كان مزيجا حضاريَامتنوَع الرَوافد شرقا وغربا، كان سببا في تطوَرالمنحوتات الزَجاجيَة وإعطائها ذات البعد الجمالي والتجاري فقد كان تشكيل الزَجاج حرفة طوَعت لجملة من الحاجاتكالحليَ الذي له صيلة متينة بالمرأة وبجمالها، والتمائم التي تحيل إلى خلفيَة عقائديَة. فالزَجاج كان ركنا هامَا في الفنَي من ناحية وفي الإقتصادي من ناحية أخرى إذ يعدَ من أهمَ المبدلات التجاريَة بين البونيين ومصر.


قد كان للبونيقيون دورا هامًّا في نقل مختلف ما تميَزت به الحضارات التي تفاعلو معها انطلاقا بالشرقي (بلاد الرافدين-مصر) والغربي(الحضارة الإغريقيَة) لكن لم يقتصر دورهم في مجرَد النقل والتقليد من شعب إلى آخر، بل مزجوا ما نقلوه من مختلف الحضارات لينتجو حضارة جديدة خاصَة في مجال فنون النحت وغيرها،مثال ذلك ما عثر عليه في مقابر درمش من أقنعة تمثَل الأسلوب الإغريقي والأسلوب الفرعوني وأسلوبا جامعا بين بين المصري والإغريقينستطيع أن نسمَيها ''الحضارة البونيقية''. "والاعتقاد السائد حتى عهد غير بعيد هو أن الفضل في كل ما عرفته إفريقيا الشمالية في العصور القديمة من تقدم اقتصادي وتقني وثقافي إنما يعود إلى الفينيقيين وعللوا ذلك بما عرفه الفينيقيون من تقدم في هذه الميادين، فقبل قدومهم كان الخلاء والقفر وكان التوحش وبقدومهم سادت الحضارة"من أعظم قوادها ''هانيبال'' الذي خاض مع قرطاج أقوى الحروب ضد الرَومان، تلك الحروب التي أطلق عليها المؤرخون اسم ''الحروب البونية'' نسبة إلى البونيين أو ''الفينيقيون الغربيون'' لسكان قرطاج.

عرفت المنطقة تعاقب عديد من الحضارات التي جلبتها ثروات هذه الأرض وأهميَة موقعها الإستراتيجي في قلب حوض البحر الأبيض المتوسط وساعد على دخولها الانفتاح الطبيعي لتونس وسهولة تضاريسها. أما تأسيس "المدينة الجديدة" قرطاجأو"قرط حدث" فيعود إلى  سنة 814 ق.م. يعدَ البداية الحقيقيَة لدخول شمال إفريقيا القديم في صلب التاريخ وذلك في علاقة بعامل التأثر والتأثير على المستوى الحضاري.

 عظم دور قرطاج تجاريَا وفنيَا وثقافيَا إلى أن كان انكسارها في حروبها مع الرَومان سنة 146ق.م، وقد كان لهذا الاحتلال الذي امتدَ طيلة خمسة قرون كان له تأثيرا عميقا سياسيَا وإقتصاديَا وثقافيَا وعمرانيَا، ففي العمران ازدهرت اللَوحات الفسيفسائيَة.  

لقدتميَزت المنطقة عن سائر الولايات الرومانيَة بازدهار اللوحات الجداريَة أي  فنَ الفسيفساءباعتماد مكعَبات حجارة متعدَدة الألوان (صورة عدد 1)، التي شهدت انتعاشا من خلال قدرتها التعبيريَةمن خلال الخطَ واللَون مظاهر حياتهم من خلال موضوعات تصوَر أنشطة حياتيَة متنوَعة والراصد لهذه اللَوحات الفسيفسائيَة بالبلاد التونسيَة بدرك تنوَع موضوعاتها كمشاهد، فقد انتشرت اللوحات التشخيصيَة في كامل مدن الولاية، فقد تنافس الأثرياء فيما بينهم في تزيين بلاطات منازلهم بهذه اللوحات فتنوَعت المواضيع التي جسَدتها هذه اللوحات، إذ نظفر اليوم "بالمتاحف التونسية" بلوحات متنوَعةالمواضيع كمشاهد الصيد، والمصارعةومشاهدأعمالالحياة اليومية والزراعة والأعمال الفلاحية، ولوحات تبرز المعتقدات والآلهة حيث استعملوا فيها "عجينة الزجاج"« Patedeverre » كتطعيم للعيون حتى تكون أقرب للحقيقة مثل لوحة "سيدةقرطاج" الموجودة "بمتحف قرطاج"(صورة عدد 2 ) وبذلك يمكن أن نعتبر أن الفسيفساء مثلت فترة قوة في التاريخ الفني التونسي وتعدَ الفسيفساء من ألمع ما أنتجه الفنَ القرطاج إذبلغت لوحاتها وفق الإحصائيات3600لوحة فسيفسائيَة تشخيصيَة وهو أهمَ ما ساعد الباحثين المؤرَخين وعلماء الآثار باعتبارفي دراسة هذه الحضارة.








Description : SAM_5925.JPG



صورة عدد 2: لوحة جدارية فسيفساء 

"سيدة قرطاج "

توجد بها مكعبات من عجينة الزَجاج

متحف قرطاج الوطني



كان البونيقيون بارعين في التَمكَن مع خامة الَزجاج سبر خصائصها والتحكَم فيها تحكَما مطلقا فتعملوا معها تعاملا ناجحا فحتَى الأخطاء التي تدفع إليها هذه العجينة استطاعوا تطويعها وسوغها سوغا جميلا ممَا جعل ما ينتجونه منها له قيمة جماليَة يكاد ينفرد بها التشكيل النحتي البوني " لقد توصلت الحفريات وأبحاث تاريخ الفن إلى نتيجة أساسيَة مفادها أن فنَ النَحت البارز اقتصر على بعض اللَوحات الحجرية المنقوشة وبدراستها يتَضح أن الفنيقيين قد أتقنوا هدا النوع من الفنون...".

لا شكَ أنَ أهميَة عجينة الزَجاج ترجع لما تتميَز به عن باقي الخامات الأخرى ببعض الخصائص التشكيليَة كالعتامة والملمس والقابلية للاختلاط بالأكاسيد الملوَنة على اختلافها، فخامة الزَجاج تعتبر الوسيط الماديَ الذي استخدمه البونيقيون لمحكاة الطبيعة والقيم الجماليَة .      

وتمثيل الجمال على هذا الأساس يمكن أن نعتبر أن المادَة في العمل التشكيلي العنصر الأولي لسبيل ثرائها، فهي وسيلة تعبير وتواصل جديرة بفكَ رموزها وبيان دلالاتها وأبعادها واستقصاء ما حفَ بها من ظروف وملابسات وما توحي إليه من مرجعيَات.

  1. تاريخ الزجاج

يجب دراسة الجانب التاريخي لخامة الزَجاج، حتى يمكن الوقوف على ما وصلت إليه الحضارات المختلفة من تقدَم في النواحي الفنيَة والتقنيَة للخامة للوقوف على مدى التطوَر والتقدَم في النواحي التشكيليَة. لقد عرف الزَجاج منذ بداية التاريخ الذي تركه الإنسان كسجلاَت تاريخيَة يستدلَ بها على حياته، ومع إن قصَة اكتشاف الزَجاج لا تعرف تماما بوضوح إلا أنَها تعتبر ابتكارا عفويا وتلقائيا، انبثق من روح الإنسان وتحقَق بفضل مهاراته الفنيَة، وإذا كانت طرق صناعة الزَجاج بسيطة نسبيا في بدء أمرها، فلا يجب أن تغيب العوامل ذات الطابع الجمالي التي اتسَم بها هذا الإنتاج.

الواقع أن قصَة الزَجاج لا تسير في خطَ منتظم، وذلك بسبب الظروف والأهداف والمصادر البالغة الاختلاف عن فنَالزَجاجوصناعته من عصر إلى عصر ومن بلد إلى أخر يختلف جغرافيَا وثقافيَا وحضاريَا. وقيل إن صناعة الزَجاج ليست مجرَد صناعة ذات طابع يقوم على المنفعة فحسب إنما هي أيضا ذات بعد فنَي، فهو إذا فنَ من الفنون الصناعيَة لئن كانت طرق صناعته بسيطة نسبيا في بداياتها بسيطة نسبيا فانَ ذلك لا ينفي عن هذه الصناعة القدرة التشكيليَة لما تنتجه من منحوتات لها طابع جميل ولا شكَ

والأرجح أن التاريخ الفعلي للزَجاج بدأ في مصر، حيث أن الأمثلة التالية هي خير دليل على بداية العمل في صناعة الزَجاج في العصور القديمة، "الطلاءات الزجاجيَة الموجودة على التماثيل الصغيرة المصنوعة من الخزف التي وجدت في مقبرة الملك ناعرمر والتي ترجع إلى قبل الميلاد حيث قاموا بوضع المساحيق على السطح الفخاري ثم أضرموا النيران حتى تذوب وبذلك أنتجوا أسطح زجاجيَة منتظمة. الفصوصالزجاجيَة التي تزين القلائد التي ترجع إلى عصر الأسرة الملكيَة الأولى، حيث تعتبر المحاولات الأولى لصنع الزجاج الشفاف". "وتعد بقايا مصانع الزَجاج التي وجدت في أنحاء كثيرة ومتفرَقة في مصر هي من أقوى الدلائل والبراهين على أن إنتاج الزَجاج نشأ في مصر أوَل الأمر وأقدم هذه المصانع تلك التي وجدت في طيبة التي ترجع إلى عهد الملك أمنحتب الثالث وثلاثة مصانع أخرى في تل العمارنة".

عرف الزَجاج منذ القديم في شكل "زجاج طبيعي"، يعدَ الزَجاج من أهمَ الآثار الفنيَة التي سجَل بها ما يدلَ عن حياته، إذ لا تزال آثار هؤلاء الأسلاف سجلا لإبداع الإنسانيَة ورمزا من رموز عبقريَتها وذاكرة حافظة لقيمها ومقوَما من مقوّمات هويَتها الحضاريَة وخصوصيَاتها، وذلك عبر الحضارات القديمة كالفنَ البوني والفنَ الرَوماني وصولا إلى الفنَ الإسلامي. فمن منظور تاريخ الفنَ أنَ الموروث الفنَي المتمثَل في الزَجاجيَات هيَ الشواهد الماديَة والأدلَة المتجسَدة والمؤشرات الحيَة على الطوابع الحضَارية والثقافات المتباينة، فقد "عرفوا الزَجاج الشفَاف والملوَن، وذي البريق المعدني واستخدم في صناعة الأواني والتمائم والتماثيل الصغيرة وأدوات الزينة، كما استخدم في أشغال المينا" ولعلَ حفظ الزَجاج في المتاحف دلالة على قيمته وثرائه ولولا ذلك ما كنَا نعرف بوجوده، لذلك وجب الاهتمام بهذا الموروث وتحليل خصائصه الجماليَة واستقراء الطرق الفنيَة في التشكيل لاستبيان طرائق الحضارات في التعامل مع هذه المادَة حتَى تحقَق لنا المعرفة التاريخيَة والعلميَة والتشكيليَة.


اختلفت أراء الباحثين في علم التاريخ والمؤرَخين حول إثبات صحَة معرفة مكان اكتشاف الزَجاج ونشأته، فالبعض يذكر أنَه من أصل فارسيَ أو ساسانَي، والبعض يؤرَخ أنه من أصل أشوري، ولكن يؤكَد الكثير من النقاد أن المصري القديم هو أوَل من استخلص الزَجاج واستخدمه في صنع أغراضه من خلال التشكيل النحتي وهذا ما تثبَته تماثيل المقابر التي وجدت منذ أربعة ألاف سنة ق م والمحفوظة بمتحف التاريخ الطبيعي" بشيكاغو".اهتمَ المصريون إذن بالتشكيل الزَجاجي وبالفنون أيَما اهتمام فقد كان مردَ ذلك هاجس الانتشار السَياسي والحضور الإمبراطوري بما يفترض من وسائل التَأثير الثقافي والفنَي. 


  1. التراث الفنَيفي المتاحف التونسيَة.

  1. التراث الفنَي

التَراث اصطلاحا كل ما ورثناه عن القدماء فكرا وعلما وثقافة وفنَا على مرَ العصور والتَراث يحمل في ثناياه معنى الإيصال والتواصل بين الماضي  والحاضر فهي مجموعة القيم المتواصلة التي يعيش عليها الإنسان عبر العصور ومازال يهتمَ بها ويعيشها ويخلَدها لأنها تمثَل إنسانيَته وقيمه الباقية. فالتَراث يشارك في بناء ذواتنا رغما عنَا، فهو يفرض نفسه موضوعيَا علينا لأنه يمثَل الآخر القادم من عمق العصور. فهومعنى متكوَن من مجموعاتسياسيَة واقتصاديَة وثقافيَة، لذلك لا يجيب أن نبحث عن التَراث في ثقافتنا، فثقافتنا هي تراثنا باعتبار أنَ التَراث ما هو إلاَ إبداع عبر تاريخ معيَن، وبذلك تتولَد علاقة جدليَة بين التَراث والإبداع.

وقد عرَف كلود عبيد التراث "هو المخزون النفسي، والفكري، والحضاري لأمَة من لأمم يفترض أن ينزرع فيه الإنسان بكلَ إبدعاته وتجلَياته. ونطق كلمة تراث على مجموعة القيم المتواصلة التي يعيش عليها الإنسان عبر العصور، ومازال يهتمَ بها ويعيشها ويخلَدها، لأنَها تمثَل إنسانيَته وقيمه الباقية".

       إن التَراث التونسي زاخر بأفكار وتصوَرات عدَة ترتكز في منطلقها وأساسها على الالتحام الكامل بالحدس والوجدان وأن يكون رمزا ودليلا يقود الذات إلى عمق الجوهر، لأنَ المسألة لا تقف عند التتبَع الجاف أو الوصفي الشكلاني لمختلف مفاصل التجربة الزجاجيَة بل ضبط القيم الجماليَة والآفاق البحثيَة الناتجة عن ذلك، إذ الفنون التشكيليَة بشكل عام هي فنون إنتاج القيم الجماليَة. 

  إن التَراث الفنَي يفرض علينا الاستفادة ممَا هو متضمَن فيه وبذلك يتحوَل من مجرَد تراث إلى فكر مكمَل ورافد لكثير من الأفكار والنظريَات ومحاولة ربطه بمناهج الفكر، لأن التَراث في إفريقيا الشماليَة وبالتحديد في المدن البونية التونسية غنيَ في الكميَة وغنيَ في الكيفيَة وزاخر بأفكار وتصوَرات عدَة، فالتَراث الفنَي جزء من الماضي وله سيطرة على الحاضر، "فيأخذ الماضي على أنَه إثراء للحاضر وإعداد للمستقبل". فلا بناء بلا أساس ولا حاضر من دون ماضي ولا إبداع بلا تراث،  فالتطلَع إلى المستقبل لا يعني التخلَص من الماضي ولا التنكَر إلى الموروث الفنَي، وليس التَراث نموذجا للتقليد والتكرار بل هو حافظ الهويَة الإنسانيَة التي يجب أن نكشف عن أسرارها وعن خباياها، حتى نتمكَن من الحريَة الإبداعيَة لإحياء الموروث الفني "وكلنا يعلم أن التَراث منبع ثريَ يغذَي الفنون بروافد عديدة هي مزيج من الرَمز والسحر والخيال إلى الحريَة والدين والخرافة " خاصَة من خلال عجينة الزَجاج المكتشفة في العصر البوني والتي تطوَرت تقنيَا وجماليَا من العصر الروماني  إلى الإسلامي.

يعتبر التراث الفنَي والمتمثَل في العديد من المنحوتات الزَجاجيَة فعلا ابتدعه الفكر وتتمثَل قيمته في كونه تأليفا بين ملكة العقل واليد وقدرتها على إخراج ما في الباطن إلى ظاهرة مرئيَة من خلال تشكيل عجينة الزَجاج، حيث يكون سبيل فهم مقاربتها الأخذ بعين الاعتبار التطوَر الثقافي والتشكيل النحتي الذي يمكن استشفافه في مسارات تاريخ الفن وخاصَة من العصر البوني مرورا بالرَوماني وصولا إلى الإسلامي. وهو ما من شأنه أن ينمي الحسَ الجماعي وتهذيب الذوق الفني تجاه التراث أي كل ما ورثناه عن الأسلاف."فالتراث الفني لأي أمَة من الأمم عبارة عن معطيات ماثلة ومتجسدة ومبلورة  لمجموعة من القيم الاجتماعيَة والفنيَة والرؤيويَة، التي ما زالت تفعل فعلها بشكل أو بأخر في أيَة أمَة ذات تراث فنَي، وليس مجرَد أشكال قديمة مفرغة من المعنى والدلالة، والتراث ليس هو أن أصنع الصورة على شاكلة القدامى، وإنما أن أستوحي من عملي المعاصر قيما جوهريَة في تراثي الفني".

إنَ ما تركته الحضارة البونيَة ورائها من شواهد فنيَة ومعماريَة ما كان لنا أن نعرف الكثير عن هذه الحضارة، فدراستها ستفسح المجال لتشخيص حضور الزجاجيَات لا بوصفها ممارسة تتضمَن مسارات إبداعيَة وحضاريَة وفلسفيَة بل أيضا الكشف عمَا تتضمَنه من طرافة ورؤى جماليَة وتشكيليَة وتقنيَة يمكن أن تشكَل لحظة هامَة من لحظات نشوء عجينة الزَجاج في ممارسة إبداعيَة وهو ما جعلنا نتَجه إلى تصوَر فنَي وجمالي للتَشكيل الزَجاجي في تونس في تصوَر تأويلي لهذا التشكيل ولمختلف أبعاده الجماليَة والتشكيليَة. 

يمكن أن نعتبر وجود تباين حول ماهيات مجموع القواعد الجماليَة المطروحة في عالم الزَجاج، حيث يجب التعريف والتدقيق في الوسائل التقنيَة والفكريَة لممارسي هذه التجربة التشكيليَة كموروث فنَي، والكشف عن تاريخها وتحديد مفارقاتها ونقاط الإشكال المطروحة ضمن قراءة علميَة ونقدية تحليليَة في التراث التونسي منذ العصر البوني حتى العصر الإسلامي المبكَر باعتبار وإنَ "التراث الفنَي ليس وقفا على مرحلة تاريخيَة بعينها، بل هو بالتحديد – وقف على الوجود الإنساني، فهذا الوجود هو شرط التراث، أي أنَ كلَ وجود إجتماعي ينتج بالضرورة – تراثه الخاص واستمراريَة هذا الوجود تعني- بالبداهة –استمراريَة إنتاج التراث، لا استمراريَة تراث إحدى المراحل دون غيرها"

  1. المتاحف التونسية وعلاقتها بالتراث.

تعريف المتحف: " إنَ كلمة متحف في الَغة الأنقليزيَة تعني Museum، والفرنسيَة Muséum، والألمانيَة Museum، وممَا لاشكَ فيه أنَ أصل كلمة متحف يوناني، ولها ارتباط وثيق بكلمة Musa، التي تعني سيد الجبل أو امرأة جبليَة وربَما كان الميوزيون (Mouseion) عند الإغريق هو المكان المرتبط بأرباب الحكمة (Muses) الشيقات التسع اللَواتي يرعين الغناء والشعر والفنون والعلوم، وهنَ الإلهات الراعيات للفنَ، والقصور لديهم وفي تعريف آخر 'المتحف' بأبسط أشكاله عبارة عن مبنى لإيواء مجموعات من المعروضات بقصد الفحص والدراسة والتمتَع، وقد تكون  المعروضات منقولة من أطراف الأرض، ومن ثمَ يجمع المتحف تحت سقفه مادَة كانت أصلا متفرَقة تفريقا كبيرا من حيث الزَمان والمكان".

وذكر دوجلاس أ.آلان تعريفا مهمَا متحف للمتحف وهو: "للمتحف مهمَتان: الأولى، جمع، وتعريف، وتسجيل، وصيانة (حفظ). وعرض، والمهمَة الثانية التي يجب على المتحف إتمامها هيَ التعريف بكلَ عيَنة بدقَة بالغة، وهنا تكمن قدرة العاملين بالمتاحف وعرَفه أحد الباحثين فقال 'هو مبنى تحفظ به وتعرض الأعمال الفنيَة والآثار القديمة'، في حين ذكر أستاذنا الدكتور علي رضوان 'إنَ كلمة متحف في اللَغة العربيَة تعنى مكانا تجمع فيه التحف، والتحفة هيَ الشيء النادر الثمين الذي تتزايد قيمته كما بعد الزمن الذي يعود إليه والمعنى أو الموضوع الذي يدلَ عليه' "

المتحف مؤسَسة ثقافيَة تاريخيَة تساعد على فهم تاريخ الأمة للحفاظ على التَراث الحضاري للأجيال. من أهمَ وظائف المتحف تكمن في جمع الوثائق التاريخيَة والمحافظة عليها وصيانتها داخل أقاليمها، سواء كانت عن التاريخ أو الفنون أو العلوم أو الحرف. فهي منشأة دائمة وظيفتها جمع كلَ ما اعتبر موروث فني والحفاظ عليه كقيمة ماثلة لها دلالات هامَة وأبعاد متنوَعة، بصورة خاصة بقصد التعلَم والتمتَع بما أبدعه الأجداد وذلك لتحقيق الاستمرار الحضاري والإبداع الإنساني "فدور المتاحف بشكل خاصَ ليس فقط عرض نماذج للزائرين تسحرهم بجمالها، بل هو أيضا تعريف وتعلَم وتثقيف الزائر بكلَ مظاهر الحضارة التي تنتمي إليها تلك الآثار، وأصبحت المعروضات في المتاحف أداة مساعدة للتعريف بالتاريخ أكثر منها أعمالا فنيَة جميلة".

لذلك وجب الحفاظ على التَراث الحضاري الوطني في المتاحف، التي توجد في العديد من الأماكن في كامل تراب الجمهوريَة، والتي جلَها مباني تاريخيَة قديمة من شأنها أن تضفي أجواء تاريخيَة وحضاريَة تجعل المنحوتات تعرض في بيئتها المناسبة. وهو ما من شأنه أن ينقذها ويحميها ويجدَد حياتها ويساهم في استمرار وجودها من ناحية، وتعميم الثقافة ونشر المعرفة من ناحية ثانية. لأن الزائر إذا ما شاهد المنحوتات المعروضة، ولمسها بحواسَه انطبعت في ذهنه أكثر. "تونس بلد فنَي عريق، عاشت على أرضه حضارات تركت أثارها واضحة في أثار البونيقيين والآثار الرومانية وفي العهد الإسلامي... واستمرَت تونس تحتفظ بتراث هذه الحضارات في فنَها الذي توضَح في الأعمال الشعبيَة الملوَنة المرسومة على الزَجاج، والتي تمثَلت منها القصص الشعبيَة والتاريخيَة الأسطوريَة، والكتابات المزوقة بالرقش والصور".

لقد تمَ توظيف المباني التاريخيَة القديمة كمقر للمتاحف التونسيَة، من شأنها أن تساعدنا على التعرَف على المنحوتات الزَجاجيَة منذ بدايتاها الأولى، أي منذ العصر البوني ومن بينها متحف "قرطاج"ومتحف "كركوان"ومتحف "سوسة"ومتحف"المنستير"ومتحف "لمطة" بالإضافة إلى متحف "باردو" ومتحف "رقادة"، مجمل هذه المتاحف تحتوي على مجموعة هامة من المنحوتات الزجاجية.

------------------

سنية فارسي من مواليد مدينة القيران، فنَانة تشكيليَة في اختصاص الزَجاج تلقَت تكوين أكاديمي وتدريب بمتحف الدكتورة عايدة عبد الكريم للنحت والعجائن المصريَة بمصر. متحصله على شهادة الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون من المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس وباحثة في مجال التراث. قامت بالعديد من المعارض وشاركت في العديد من التظاهرات الثقافيَة والفنيَة  داخل أرض الوطن وخارجها بالمغرب والجزائر 


التعليقات

سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا

أحدث أقدم

إعلانات

إعلانات