استضافة التراث الكتابي الأدبي لتطوير فنون الكتابة الصحفية العربية
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة
كيف يمكن للعالم العربي ان يجدد ويستعيد اليوم تراثه العقلي الفكري والادبي الرائد للخروج به من رواسب قرون الانحطاط والتخلف والدخول به باقتدار غمار المنافسة العالمية الراهنة والمستقبلية ، في عالم تبدو فيه الحضارات بين مد وجزر بين الازدهار والانحطاط ثم الازدهار المقرون بصحوة جديدة ، كأنها "نشأة متجددة"، كما قال العلامة بن خلدون.
ويجد العالم العربي الإسلامي نفسه اليوم مسلحا جيدا لكسب المعركة القادمة والراهنة بفضل الكم الهائل من الإنتاج الفكري والكتابي الإبداعي الذي أنتجه في عدة قرون من النبوغ والإزدهار، في العصر الوسيط الذي كان عصرا اسلاميا معولما بلا منازع. وهو ما يجعل الأمر أكثر إلحاحا نوعيا اليوم، مما كان عليه في فترة الصحوة الأولى ، مع عصر النهضة في القرن الثامن عشر، وذلك لتجاوز حالة الإنحطاط واستعادة هذا التراث وتدقيقه ومعالجته بالأساليب التحليلية النقدية العلمية التي كان الغرب نفسه نقلها عن العلوم العقلية للعرب .
وللتذكير فقد قامت في السابق دراسات المستشرقين بإماطة اللثام عن جوانب مخفية من هذا الإرث العربي الإسلامي بالمنهجيات العصرية، بعد أن ظل منسيا طوال قرون الغروب . وقد تلاهم جيل من النقاد العرب والمسلمين، لم يختلفوا كثيرا في مناهجهم الجديدة عن المنهج العقلي والمنطقي للمعتزلة والجاحظ ، ولكن بأسلوب المدارس العلمية النقدية العصرية في بلدان أوروبا التي درسوا فيها .
وخلال العقود الأخيرة وخاصة منذ منتصف القرن العشرين، تعددت المناهج التحليلية للأثر الأدبي في بلدان الغرب. وتوجد على رأسها مقاربة المنهج البنيوي الذي يستند في تحليل الأثر على عمليتي التفكيك وإعادة التركيب المشروطة بتفحص العناصر الذاتية للأثر دون غيرها، وذلك بغاية تقصي ودراسة العناصر الأساسية المكونة للأثر الأدبي من خلال فحصه في ذاته لإبراز مضمونه وسياقه وترابط عناصره المكونة لفكرته الأساسية، وذلك بقطع النظر عن أية عوامل خارجية عنها ، حسب أغلب اتجاهات هذه المدرسة. وقد تفرعت عن هذه الأساليب الدراسية مناهج متعددة في النقد الأدبي مثل الأسلوبية والبنيوية والتفكيكية وغيرها من المناهج النقدية التي درست النص من الداخل والخارج، عبر تحديد قواعد اللغة فيها ووظيفة الكلمة ومكانها في النص .
وعلي غرار مناهج الدراسات الإعلامية والصحفية التي ورد إليها منظرون من مختلف الحقول المعرفية للعلوم الإنسانية، كان الأمر كذلك في الدراسات الأدبية والنقد التي وفد عليها منظرون منتصف القرن العشرين من أفاق معرفية عدة شكلوا بها تيارا فكريا نقديا كان أبرزهم كل من كلود ليفي ستروس من الأنتروبولوجيا ورولان بارت من الأداب وجاك لاكان من علم النفس وميشال فوكو ولوي ألثيستر من الفلسفة .
ولازال إلى اليوم المجهود التجديدي متوهجا في مجال النقد والتحليل الأدبي لتنزيل الإبداعات القديمة في سياقات البيئة العربية الحديثة السائرة في طريق النمو المادي والفكري بعد قرون من السبات تحت كلكل الانحطاط الحضاري، وجاثوم الإستعمار الأجنبي، وكابوس الواقع المتخلف. وتعددت لهذا الغرض مناهج وتجارب استنطاق النصوص القديمة بآليات البحث ومناهج التحليل المعاصر. وهي محاولات لربط الماضي بالحاضر، والقديم بالجديد عمد إليها أساطين الأسلوبية والمناهج التحليلية في الغرب. كما عمد إليها الكثير من معتمدي تلك المناهج المستحدثة لاستضافة التراث الفكري والأدبي العربي وجلبه للمثول أمام محك التجريب والاستنطاق العلمي المحتكم إلى أساليب وتقنيات جادت بها قريحة المنظرين في الغرب الحالي الذي يعتبر خلاصة الفكر الإنساني منذ الإغريق، إلى العرب والمسلمين في العصر الوسيط مرورا بحضارة الهند وفارس قديما.
ومن أبرز التجارب في العالم العربي ما عمد إليه الأستاذ توفيق بكار أستاذ الأدب العربي في الجامعة التونسية، من تجارب في قسم المناهج أخضع فيها التراث الشعري والقصصي العربي إلى مناهج المنطق الدلالي . وقد تطورت تلك التجربة المخبرية إلى إقامة حوار تحليلي في كتابه " قصصيات عربية" تعرض فيه إلى أنماط شائعة ومعروفة من القصص القديم المتمثل في النوادر والأمثال والمقامات البديعية ، واستنطق نصوصها بتحليل سر معانيها وما خفي بين السطور وألفاظها الظاهرة ومعانيها الخفية وعلاقتها الجدلية بكاتبها والمجتمع الذي ظهرت فيه، وصولا إلى دراسة قيم المجتمع والأفكار والسلوكات السائدة فيه آنذاك. وكان الهدف الثانوي تقريب تلك التقنيات والأجناس الكتابية، والنهل من معينها للانتفاع بها في جهد تطوير الكتابة الصحفية العربية التي تشهد انفجارا نوعيا كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة في أجناسها الكتابية وتقنياتها المتسارعة في المجتمعات الاخري، في طل تطور الميديا ومابعد الميديا وسطوة شبكات التواصل الاجتماعية التفاعلية، كما كانت سابقا في بغداد حول التوحيدي والجاحظ وبديع الزمان.
دور الإخباريين بين الأمس واليوم
لقد تبين للباحث من دراسة ماتركه الإخباريون العرب مثل الإصفهاني في " الأغاني" والمسعودي في "مروج الذهب" والتوحيدي في " الامتاع والمؤانسة" والملقب "بصحفي عصره" ، أنهم كانوا إخباريين بحق يقومون بإسناد الخبر الذي يروجونه إلى أصله والتأكد من مصداقيته عبر تصحيح الأخبار، وذلك لضمان سلامة الخبر باتصال إسناده . وقد يتطور الإسناد بالعَنْعَنَة المسترسلة إلى أكثر من عشرة مصادر. ولا يقوم هؤلاء الإخباريون ، بإذاعة الخبر قبل التثبت في المصادر والأصول، تفاديا للشك أو التشكيك فيه مستقبلا. وهي في الحقيقة عملية إثبات وتقرير، تستهدف الإطباق على المتلقي بكل الأساليب لتصديق الخبر، وعدم ترك أي مجال لتضييق دائرة التصديق .
وفي الحقيقة فان كتابات الإخباريين والوقائعيين العرب في اوج ازدهار الادب العربي في بغداد، واللذين يقابلهم اليوم في تصنيف الأجناس الصحفية ، صحافيو وكالات الانباء ، هي في الحقيقة متكونة من العناصر الأساسية للخبر الصحفي العصري: (من؟ ماذا؟ متى؟ أين؟ كيف؟ لماذا؟ ). وهو ما تجمع عليه مدارس كتابة الأخبار المعاصرة في أهمية تمحيص إسناد مصادر الأخبار عبر التثبت في صحتها ودقتها في البلاغات الصحفية ووكالات الأنباء ومراكز المعلومات ووسائل التواصل الإجتماعي المستحدثة .
الجاحظ وفنون الكتابة الصحفية
اما النوادر التي أوردها الجاحظ في كتاب "البخلاء" فهي تعد صورة نمطية للكتابة الصحفية المختصرة التي برع فيها ووضع أسسا لها وشدد فيها على أهمية حذف الحواشي والحفاظ على لب القصة وتوشيحها في بعض الأحيان بصور مجازية معبرة تغني عن البيان البلاغي، أو تتحايل على المتلقي أو القارئ لضمان تشوقه إلى سماع باقي الحكاية حتى النهاية التي تكون ممهورة بنكتة مفاجأة أو لاذعة، كما في البحث اليوم عن التشويق الاذاعي والتلفزيوني.
و سعيا لتحقيق التجديد الحضاري وربط الماضي بالحاضر ،يتحدث توفيق بكار في هذا السياق التجديدي عن أهمية إحياء العلوم الكتابية ومختلف أجناسها الأدبية السابقة داعيا إلى مقابلة الأجناس الأدبية القديمة مع الأجناس الصحفية الراهنة للكتابة على غرار ما قام به أدب الرحلة في إغناء المعرفة التاريخية وتقريب الخبر والمعلومة إلى المتلقي، متسائلا بقوله في كتابه "قصصيات" :" أنُقَدِّرُ كَمْ خسِرنا حضاريا بانقطاعِنا عن استكشاف الدنيا بِمِثْلِ رحلة ابن بطوطة . يكفي أن رِيَادةَ الأرض قد انتقلت مِنَّا إلى الغرب، فَعَوَّضَ مارْكو بولو، ابن بطوطة، وحلَّ فاسكو دي غاما ، وماجِلان، وكولومْب، محل السِّنْدباد، فشقوا الطرقات، وفتحوا القارات، ثم اخترعوا الباخرة والقطار والسيارة والطائرة والغواصة والصاروخ، فقربوا المسافات، واختزلوا الزمان، وسيطروا، برا وبحرا وجوا، وظلَلْنا نَحْدُو العِيرَ ونَركَبُ الحَمِيرَ... مَا أضاعَتْ أُمَّةٌ ذِكرَى ثقافتِها، إلاَّ ذهبَتْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ذَاتِها إلاَّ أَمْسَاخُهَا".
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا