كيف رأى طه حسين إصلاح التعليم و كيف نراه نحن ؟
بقلم ياسين فرحاتي-
تعتبر وزارة التربية من الوزارات السيادية. و بالتالي فإن قطاع التعليم يعد قطاعا حيويا و إستراتيجيا و تحتل مهنة التعليم مكانة رفيعة لدى الإنسان لكونها الأفضل رغم أنها شاقة جدا بحسب الأستاذ الجامعي و المفكر التونسي المعروف أبو يعرب المرزوقي في كتابه " إبستيمولوجيا البديل ".
و قد كثر الحديث خلال السنوات الأخيرة و تعاظم الآن بشكل ملفت للإنتباه في بلادنا عن إصلاح التعليم بحيث تعالت الأصوات المنادية بفتح هذا الملف الشائك الذي صار قضية وطنية مصيرية بعدما فشلت حكومات ما بعد الثورة خلال العشرية الماضية و التي يصفها كثيرون ب" السوداء " في بلورة خطة حقيقية للإصلاح و إنقاذ ما يمكن إنقاذه و أريد أن أضيف نقطة مهمة في إعتقادي أنه خلال تلك العشرية تولت شخصية علمية معتبرة وزارة التعليم العالي و البحث العلمي هي الدكتور المنصف بن سالم مؤسس قسم الرياضيات بكلية العلوم بصفاقس و لكن المنية وافته دون أن يحقق مشروعه العلمي و المعرفي و لأن الظرف لم يكن مهيأ للإصلاح لأن البلاد كانت ترزح تحت فوضى الإضرابات و الإعتصامات كما أن الوزير في تلك الأيام كان ضعيفا على مستوى القيادة و التحكم بالوزارة بإختصار رغم كفاءته هو شخصيا . إلا أنه ما يلاحظ خلال تلك الفترة إرتفاع نسبة المتحصلين على شهادة الدكتوراه بينما يشكوا الكثير منهم حسب ما يقول الأساتذة المؤطرون من نقص في التكوين و التأطير و لست أدري كيف السبيل إلى تلافيه و الذنب ذنب من ! و قد إنتهت الوزارة المعنية بعد نضال مستمر لحاملي الدكتوراه إلى ضرورة إحداث هيكل خاص مكلف بتثمين البحث من أجل جودة التعليم العالي.
و في حقيقة الأمر يبدو أكثر من ملح بالنسبة للأسر التونسية و منظمات المجتمع المدني و الإتحاد التونسي للشغل و المعهد العربي لحقوق الإنسان و كذلك الألكسو رغم أنها منظمة عربية تعنى بالتربية و الثقافة و العلوم و مقرها تونس، جميعها تضغط في إتجاه إيجاد حلول ناجعة و فعالة لعديد المعضلات و المشكلات التربوية و التعليمية التي تهدف إلى محاربة ظاهرة العنف المدرسي و من منا لا يتذكر إعتداء تلميذ على أستاذ مادة التاريخ خلال السنة الدراسية الماضية، بآلة حادة و كاد يذهب ضحية لذلك التلميذ المتهور و المنحرف. و أعتقد أنه يفترض تواجد أخصائي نفسي للإحاطة بالتلاميذ بهدف معالجة مثل تلك الحالات عند العودة المدرسية و بصفة مستمرة و ضرورة تواجد الدوريات الأمنية و بكافة أمام المدارس و المعاهد. و الانقطاع المدرسي حيث أن الكثير منهم لا هم من ذوي التعليم الطويل و لا التعليم المهني فيتبعون مشردين و رواد مقاهي للعب الورق و القمار و زمان كان المقهى رمزا للثقافة و المعرفة و الإبداع و خير دليل على ذلك " جماعة تحت السور" . فكم عدد رواد المكتبات العمومية يا ترى و حسنت فعلا الجهات الحكومية عندما حاولت إرساء و تحذير فعل القراءة و المطالعة لدى الناشئة من خلال" البطولة الوطنية للمطالعة " و هي في دورتها الثانية بغية تحفيز الأطفال و الشباب و الكهول على الإقبال على الكتاب الورقي الذي صار مهجورا و ليت المجلات الثقافية الأخرى تعود كما في الأيام الخوالي و هي أيام عز و نخوة و فخر لنا مثل مجلة الفكر و حتى مجلة وزارة الشؤون الثقافية يبدو أنها قد إختفت عن الساحة. كما أنه يسجل تضاءل كبير جدا في عدد الموجهين إلى شعبة الرياضيات حيث بلغت النسبة 6%. كما أن الدروس الخصوصية مكلفة جدا لكثير من العائلات التونسية و لا يبدو للوزارة تأثير في هذا المجال فبعد تحذيرات الوزير الأسبق ناجي جلول من تداعياتها كونها لا تمنح فرصا متكافئة للتصاميم على حد السواء و هي مفيدة أكثر في رأيي للتلميذ النجيب و للراغبين في التفوق و التميز لكن ما المانع أن يجتهد الأستاذ الأكثر و التلميذ أكثر و تحفيز الإثنين و ذلك بمراجعة الزمن المدرسي حيث مثلا في دول الخليج الغنية فترة الدراسة صباحية فقط، و لا بد أيضا من مراجعة البرامج الدراسية و التخفيف منها بدلا من الإبتدائي و حتى الثانوي و العالي و ضرورة الإبتعاد عن التلقين لكن في المقابل ثمة مقارنات إقترحها عالم الفيزياء الفذ و كذلك المفكر ألبرت أنشتين بخصوص التدريس و طرق الارتقاء به نوردها في شكل مقولات:
- " الثقافة هي ما يبقى بعد أن تنسى كل ما تعلمته في المدرسة "؛
- " التعليم هو ليس تعلم الحقائق، إنما هو تدريب العقل على التفكير ". و أعتقد أن مدارسنا و معادنا و حتى جامعاتنا لا تساعد على التفكير و لا على إنتاج مثقفين، ذلك أن مهمتها تتوقف على تخريج طلبة بشهائد علمية أغلبها دون المأمول لا تتوافق و سوق الشغل و حاجات الدولة التونسية إذ يجب العمل على تطوير طرق التعليم و أساليبه و ذلك بالإعتماد على التكوين بالتداول بين الجامعة و المؤسسات الإقتصادية حتى تعم الفائدة الجميع.
و في ذات السياق، بالنسبة للتعليم العالي فإن ترتيب جامعاتنا في ذيل الترتيب و شهادة البكالوريا لم تعد بتلك القيمة دوليا رغم أن معدلات المتفوقين في المناظرة الوطنية مرتفعة جدا تجاوزت في بعض المرات 20/20 و هذا لا يشكك في المستوى الجيد لهذة النخبة رأس مال تونس و لكن رغم ذلك يقول البعض أنها أصبحت محل نقد و تشكيك و ذلك لأكثر من علة حيث توالت خلال السنوات القليلة الماضية عديد الإضرابات و تم حذف نصف البرنامج لسنوات الرابعة ثانوي في مختلف الشعب بسبب وباء كورونا المستجد مما أدى إلى إعتماد نظام الأفواج لكن الأخطر من كل ذلك هو تدني مستوى التعليم الإبتدائي الذي أثر على الإعدادي و الثانوي و هو بطبعه أثر و يؤثر على مستوى التعليم العالي و على منظومة البحث العلمي و هو مأ أدى إلى ما نراه من بطالة كبيرة متفشية في صفوف حملة شهادة الماجستير و أيضا الدكتوراه و ما نراه من حالة تذمر و سخط و إحباط كبير لدى الباحثين منهم و إن كان الأمر مرتبطا بالوضع الإقتصادي بصفة عامة و بسبب فساد و محاباة صلب قطاع التعليم العالي على علاقة وثيقة بلجان الترقية و الإنتداب و هو ما كشف عنف مؤخرا أستاذ محاضر في التاريخ عبر مقالة صحفية و عبر مداخلة على الوطنية الأولى ضمن برنامج " الوطنية الآن ". و كشف عن المستور و أملنا أن تشكل لجان للتقصي و التحري للمعالجة السريعة للمأزق و أن تجد إستغاثته آذانا صاغية من لدن الوزير و يعمل على إصلاح الخروقات و نحن كنا نستفتي على مشروع دستور جديد للبلاد هو محل جدل واسع قاطعته شرائح واسعة لسبب أو لآخر لكن يرى ملاحظون و متابعون حتى أجانب أن رغم وجود خروقات و تجاوزات لكنها غير مؤثرة كثيرا أنه حقق مبتغاه رغم أن النسبة ليست كبيرة لكنها معتبرة في صفوف المسجلين المستفتين بنعم " حيث بلغت 94,60% أي أكثر من مليوني مصوت بنعم. و قد إعتبر الرئيس قيس سعيد يوم 25 جويلية يوم الإحتفال بذكرى الجمهورية بأنه " يوم تاريخي عندما إستعاد الشعب التونسي ثقته في ولي أمره و أن تحقيق المعجزات ليس بالأمر الصعب على التونسيين " و أردف قائلا : " أنه لا أحد محصن من المحاسبة عند إرتكاب الأخطاء ". المطلوب هو إصلاح العيوب التي كانت في دستور 2014، الذي صار من الماضي القريب " الأليم " رغم أن الفصل 80 من الدستور الفارط هو الذي مهد الطريق لتغيير 25 جويلية 2022 المتعلق بوجود " خطر داهم " ؟؟! و هو ما دعا الكاتب الصحفي و النائب السابق الصافي سعيد إلى تأليف كتاب تحت عنوان " جمهورية الخطر الداهم " تحدث عن الأنواع الأربعة لأنظمة الحكم السياسي و عن مفهومه هو لمعنى الخطر الداهم و عن مخاطر ما أقدم عليه الرئيس سعيد من مس بالممارسة الديمقراطية من إستحواذ على السلط السياسية الثلاث حسب رأيه.
و كثيرا ما يلام الرئيس على سوء إدارة الدائرة الإتصالية ( طريقة الخطاب، الزمن، المكان، إلخ ) و يجب عليه الإنتباه إلى الأمر جدا.
لنبقى أقرب أكثر إلى موضوع مقالتنا، و بالعودة إلى سنوات مضت و يبدو أنه الشغل الشاغل لأكثر من كتب كاتب تونسي و لنا في الكاتب الصحفي القدير صالح الحاجة خير دليل على ذلك. في إحدى بطاقاته اليومية الجيدة في جريدة الصباح المعنونة " أعطني طبيبا و معلما " و هو محق في ذلك أن الدول المتقدمة تراهن على التعليم و الصحة و هنا أورد مقتطفات من هذا المقال المتميز :
" أعطني طبيبا يعالجني عندما يداهمني المرض بالليل أو النهار.. و أعطني مدرسة و مكتبة و ناديا ثقافيا يتعلم فيه أبناءي و ينهلون منها العلم و المعرفة و إفتح لي قاعة سينما أشاهد فيها أحدث الأفلام فأتسلى و أتعلم.. و سوف لا أغادر قريتي أو جبلي أو مدينتي. "
إن إصلاح قطاع التربية و التعليم ركن أساسي في دستور الرئيس قيس سعيد المعروف بال" البناء القاعدي " حيث ينص أحد فصوله على إحداث مجلس أعلى للتربية و خلال الأسبوع المنقضي دعا رئيس الجمهورية إلى إعادة إنشاء" مدرسة الترشيح " و " دار المعلمين العليا " رغم وجود إختصاص " علوم التربية" لتخريج أساتذة تعليم إبتدائي فهل يا ترى ما طبق بالأمس يصح أن يطبق اليوم و الحال أن الوضع مختلف تماما فلا مستوى تلميذ السبعينات و الثمانينات و التسعينات هو نفس مستوى تلميذ هذا العصر إن ذهنيا أو أخلاقيا إلا من رحم الله !
و من المشاكل التي يعاني منها قطاع و التربية التعليم في تونس رغم وجود بعض الفوارق بين الجهات و بين مندوبيات التربية على مستوى النتائج في الإمتحانات الوطنية حيث نجد صفاقس 1 و صفاقس 2 الأولى و الثانية وطنيا في البكالوريا مثلا، بينما نجد القصرين في أسفل الترتيب و هذا يعود إلى عوامل عديدة منها الوسط العائلي و المناخ العام في الجهة إلى جانب عوامل جغرافية و تاريخية و ثقافية دون أن نستثني من ذلك عامل الفقر و الخصاصة و الإحتياج حسب دراسات و إحصائيات لعلماء الإجتماع. رغم أن المعاهد النموذجية متواجدة في كل ولايات الجمهورية بدون إستثناء و لكن نجد أيضا إستثناءات بين نفس تلك المعاهد حيث ثمة معاهد لا تزال متميزة على غرار المعهد النموذجي بأريانة. و هنا أريد أن أفتح قوسا بخصوص تدريس مادة العلوم الفيزيائية بالعربية لتلاميذ السنوات السابعة و الثامنة و التاسعة بالمعاهد النموذجية بالفرنسية بينما يقرأها زملاؤهم الآخرون و لا يبدؤون دراسة تلك المادة بالفرنسية إلا إنطلاقا من السنة الأولى ثانوي و لكن الغريب حقا هو أن كل التلاميذ يجرون إمتحان المادة بالفرنسية عند مناظرة البكالوريا و هذا غير منصف طبعا كان من المفروض أن تكون بكالوريا خاصة للنموذجي! و إن كان البعض يقول يوجد تلامذة متميزون في المعاهد غير النموذجية قد لا تجدهم في النموذجية و هو ما حصل بالفعل هذا العام حيث أن الأولى على مستوى ولاية القصرين من معهد حاسي الفريد غير النموذجي. قد أضيف إلى هذا نقطة أراها مهمة أنه على الرغم من وجود مناظرة السيزيام و مناظرة النوفيام إلا أنه وقع التخلي على الأقل على مستوى مدارس و معاهد عديد الجهات عن الإختبارات الجهوية و ما لها من فائدة جمة و هي أمور عشتها لما كنت تلميذا إضافة إلى ذلك لماذا لا تعود منشورات " رباعيات الخيام " للصدور مرة أخرى في مواد كالرياضيات و العلم الفيزيائية مثلا و ثمة قرارات أخرى من قبيل إحداث "قناة تربوية " خطوة في الإتجاه الصحيح. كما أن الحياة المدرسية فقدت رونقها و حماسها و جديتها و فرحتها بالمنافسة الشريفة بين المدارس و المعاهد بعد التخلي منذ سنوات عديدة عن " المسابقة بين المدارس أو المعاهد " حتى في الرياضة التي أرساها معلمين غادرونا في عز البذل و العطاء على غرار المربي الفاضل سلامة بناني رحمه الله. و لا بد في نفس الإطار أن تكثف الخطوات الهادفة إلى تطوير إمكانيات و مهارات المعلمين و الأساتذة النواب.
إن من العوامل المؤثرة على على تردي نتائج التلاميذ في ولايات داخلية كالقصرين و غيرها من المناطق المنهكة هو بيروقراطية الإدارة و إنعدام الضمير المهني و سوء التنظيم و الولاءات و غياب الكفاءة فرؤساء المصالح ليسوا على دراية بعلم الإدارة و دواليب تسيير الموارد البشرية، إذ لا يكفي في إعتقادي أن تكون أستاذ مهما كنت بالعافيه أن تسير مصلحة ما دون أن يكون لديك إطلاع على " نظرية المنظمات " أو " علم إجتماع الشغل " أو " إقتصاد المؤسسة " كان يفترض أن تكون الأولوية تمنح لأساتذة العلوم الإقتصادية و خصوصا التصرف لكن طبعا توجد بعض إستثناءات! . و هو ما إنعكس عموما سلبا على أداء الموظفين و هذا شيء رأيته بأم عيني و لا يمكن إنكاره رغم الزيارات الفجئية التي يؤديها المتفقدون لمختلف المصالح و لكن ثمة من الموظفين من يتسترون على بعضهم البعض و هو ما إنتبهت إليه وزارة التربية و قامت بتغيير المدير الجهوي بالقصرين على خلفية قضايا فساد مالي و تلاعب بالنتائج و في منح للرخص متعلقة بمعهد " إكسال EXCEL " الخاص.
قرأت ذات مرة أنه في إسرائيل، خلال المرحلة الابتدائية يقع تدريس التلاميذ مادة أو مواد تتعلق بإحداث المشاريع أو ريادة المشاريع قصد معرفة توجيهاتكم المستقبلية و حثهم على الإبداع و الخلق و الإبداع منذ نعومة أضافرهم و لنا في تونس تجارب جيدة ليلتها لو تعمم على كل معاهد و حتى مدارس البلاد تتعلق بال" الروبوتات " و ثمة فريق من هؤلاء سيشارك في مسابقة دولية في مصر و كانت قد إستقبلتهم رئيسة الحكومة نجلاء بودن. جديد المشاريع الشبابية يتعلق بمسابقة " مشروعك " التي أطلقتها وزارة التكوين المهني و التشغيل منذ أيام قليلة قصد إنتقاء 48 مشروعا فائزا. و المشكلة هنا في نظري، أنه لا يوجد تكافؤ للفرص بين الشباب فكم من أفكار نيرة لمشاريع رائدة وأدت لأنها لم تجد الدعم الكافي خصوصا في المناطق الداخلية و المهمشة. و أود أن أذكر هنا ببادرة جيدة كانت تنظم كل يوم إربعاء بأحد مؤسسات التعليم العالي في كل ولاية قبل الثورة هي " أربعاء المؤسسة " و العنوان كما يقول البعض يحيلنا إلى كتاب جيد لعميد الأدب العربي طه حسين " حديث الأربعاء " و هو ما سينقلنا مباشرة إلى رؤيته الخاصة لإصلاح قطاع التعليم من خلال كتابه المعنون " مستقبل الثقافة في مصر " و هو كتاب قيم جدا لأنه أتى كما قال ناشر الكتاب حسن أحمد جغام نتيجة لأفكار جديدة بعد مخاض عسير و لعل الدكتور طه حسين هو إفراز لهذا المخاض، فكان إحدى الفلتات التي لا تأتي إلا مرة واحدة بعد قرن أو قرون. و لا شك أن الحركة الفكرية و الأدبية في الأمة العربية قد ظلت لعهد بعيد متمسكة بتقليد القدماء، محافظة على أساليبهم التقليدية، ترفض كل تجديد يمسه.
و هكذا جرت العادة بطه حسين، فكلما طرح أفكار جديدة، تقوم الأرض و تقعد.. قيندفع الكتاب و النقاد، هذا يمدح و يهلل، و ذلك يهاجم بعنف و قسوة. هذا ما حدث حيث صاحب صدور كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " سنة 1938، إزدياد عدد الأنصار و عدد الأعداء، و حميت المعركة.. فالجميع يهمه موضوع الكتاب أو أنه طرف فيه.. إذ كان طه حسين في هذا الأثر العظيم يخطط و يرسم مثالا هندسيا لمستقبل الثقافة بأبعادها السياسية و الحضارية، أو على الأصح برسم سياسة شاملة لنظريته في أساليب التعليم في جميع مراحله، إذ يرى أنه يجب أن يكون متناسقا منسجما مع روح العصر، متمنيا في مسار واحد و عقلية واحدة تؤدي إلى هدف واحد واضح.
حيث يرى مؤلف الكتاب أن " الحضارة و القوة، و الثروة، تقوم على الثقافة و العلم. و بدون هذه العوامل تفقد الشعوب حريتها و تضيع إستقلالها. "
إن قيمة ما كتبه طه حسين وزير المعارف المصرية سابقا و على إرتباط بموضوع مقالتنا هو أن ما كتبه خلال أربعينيات القرن الماضي أجده متجليا و واضحا بعمق إلى حد كبير اليوم في بلادنا، حيث المنافسة بين التعليم العمومي و التعليم الخاص و بين التعليم الوطني و بين التعليم الأجنبي و أيضا بين ما يسميه هو التعليم الرسمي المدني و بين التعليم الديني في جامع الأزهر الشريف. حيث يقول: " هناك التعليم الرسمي المدني الذي تنشئه الدولة و تقوم عليه. و قد كان إلى الآن متواضعا هين الأمر، يقصد به إلى أغراض متواضعة هينة. و قد رسم الأنجليز له طريقة محدودة ضيقة، فأفسدوه و أفسدوا نتائجه و آثاره أشد الفساد. و نحن نبذل منذ أعوام جهودا مختلطة مضطربة لإصلاح ما أفسد الأنجليز. فلا نكاد نوفق في بعض الأمر حتى تعدو العاديات فتردنا إلى الإخفاق و الخذلان.
و هناك التعليم الأجنبي الذي قام في مصر، مستضلا بالإمتيازات الأجنبية، غير حافل بالدولة، و لا خاضع لسلطان و لا ملتفت إلى حاجات الشعب و أغراضه، و لا معني إلا بنشر ثقافة البلاد التي جاء منها، و الدعوة لهذه البلاد، و تكوين التلاميذ المصريين على نحو أجنبي خالص، خليق أن يبغض إليهم بيئتهم المصرية، و أن يهون يهون في نفوسهم قدر وطنهم المصري، لو لا أن سلطان مصر على أبنائها أعظم من ذلك و أقوى، و أقدر على مقاومة ذلك و محو آثاره. " أود هنا التعليق على هذه الفقرة أننا في تونس نتكلم الفرنسية كلغة ثانية و من الطبيعي أن يكون التعليم الأجنبي تعليما فرنسيا و ليس أنجليزيا أو أمريكيا أو روسيا أو صينيا أو ألمانيا عدى أن الضرورة إستوجبت في بعض الحالات عند الهجرة إلى تلك البلدان أن تتعلم لغتها كالألمانية بالنسبة للممرضين و إن لم تكن مطلوبة بالنسبة للأطباء و المهندسين. و ثمة ربما بشرى للمنادين بتدريس العلوم بالأنجليزية هو إطلاق معهد بجامعة منوبة كتجربة أولى للتدريس في تخصص علمي أو هندسي بهذه اللغة و من المؤكد أن التجربة قد تعمم فثمة مثلا مدارس
MBA و Business School
التي أظنها تدرس بالإنجليزية و ربما بأكثر من لغة أجنبية. و أود هنا التعريج على مسألة اللغة الأجنبية، فهي متصلة أساسا بمدى جدولها الإقتصادية كجالبة للمنافع فلو أدكرنا أن اللغة العبرية مثلا لا بد من تدريسها عملا بقول النبي صلى الله عليه : " من علم لغة عدوه سلم من شره " لوجب تدريسها للناشئين و لكن اللغة العربية و كما صرح الوزير فتحي السلاوتي منذ أيام قليلة نجد أن النتائج ضعيفة جدا فثمة من هو في الإعدادي و لا يحسن الكتابة أصلا كما أن خبراء و باحثين كبار في العلوم يرون أنه " من الضروري تعريب العلوم و تدريسها بلغتها الأم. " المشكلة أن قرارنا ليس سياديا و لا زلنا نشتري البرامج التربوية و المقررات الدراسية و تأتيني الإصلاحات من الخارج على غرار التعليم الأساسي و منظومة إمد و الواقع أن المختصين يرون فيها برامج فاشلة. العيب ليس في التقليد في الأشياء الإيجابية لكن في تغيير البرامج و العناوين دون تهيئة للأرضية المناسبة. لقد قام البعض من قادة الفكر و الإصلاح في تونس معالجة مسألة التربية و التعليم مثل الأستاذ الأديب الراحل محمود المسعدي في الثمانينات و كذلك المفكر و الحقوقي محمد الشرفي في التسعينات ضمن فرق عمل و لكن يجب الإقرار حقيقة أن التعليم إصدار في عهد بورقيبة و تراجع كثيرا في عهد إبن علي و أما الآن فحدث و لا حرج !
منذ السبعينيات أو الثمانينيات يوجد تعليم فرنسي في تونس عبر المراسلة مثل Educatel و تم تعويضه أو الاستغناء عنه بعد الثورة المعلوماتية و توجد " مجموعة بوعبدلي" للباكالوريا الفرنسية و للتعليم العالي بمختلف أنواعه والCNAM للتعليم العالي عن بعد.
و يواصل طه حسين حديثه قائلا : " و يريد سوء الحظ أن يكون هذا التعليم الأجنبي في جملته أنفع و أغنى من التعليم المصري الرسمي، فيدفع المصريون أبناءهم عن رضى و إختيار، بل عن حب و إيثار. و ينتج عن ذلك أن الشبان الذين يخرجون من هذه المعاهد الأجنبية مهما يكن حبهم لمصر، و إيثار لها، فإنهم يفكرون على نحو يخالف النحو الذي يفكر عليه الذين يخرجون من المعاهد المصرية. بل هم يفكرون على أنحاء مختلفة، و تظهر نتائج هذا التفكير المختلف في حياتهم العملية اليومية، و في تقديرهم للأشياء و حكمهم عليها. " هذا التعليم ظل سائدا طوال الحقبة الإستعمارية لكن بعد ذلك ظهرت الجامعة الأمريكية بالقاهرة و هي معروفة جدا إلى جانب أن الدولة المصرية ترسل إلى الآن البعض من طلبتها إلى الخارج و منهم من تفوق و قد درس في مصر مثل الأديب الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب و كذلك العالم أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء. و عندنا في تونس الأوائل في إمتحان الباكالوريا يسافرون للدراسة بجامعات فرنسا خاصة و ألمانيا و كذلك طلبة المعهد التحضيري للدراسات العلمية و التقنية بالمرسى البعض منهم يلتحق برقى مدارس تكوين المهندسين بفرنسا على غرار مدرسة البوليتكنيك و غيرها. المهم أن تونس لا تستفيد كثيرا منهم لأن جلهم يبقى للعمل و التدريس في الخارج فيساهمون في الناتج الداخلي الخام و تحقيق القيمة المضافة لتلك البلدان و بعضهم قد يكون محقا لأنهم لا يجدون الظروف المناسبة لتحقيق طموحاتهم بعد الدراسة.
مسألة التعليم الديني يراها أديبنا الفذ مهمة للغاية في مقاربته العلمية، حيث يردف قائلا : " و هناك تعليم آخر تشرف عليه الدولة و لا تشرف عليه. تشرف عليه لأنه خاضع آخر الأمر لسلطانها، و لا تشرف عليه لأنه مستقل في حقيقة الأمر إستقلالا عظيما، و هو التعليم الديني، الذي يقوم عليه الأزهر الشريف و ما يتصل به من المعاهد المنبثة في الأقاليم. هذا التعليم تشرف عليه الدولة لأنها تنفق عليه من الخزانة، و من أوقاف المسلمين، و لأنها تنظمه بما تصدر من اللوائح و القوانين. و لكنه كان إلى عهد قريب منحازا عن الحياة العامة، قد إنصاف إلى نفسه، و إنصرفت الدولة عنه، و مضى في طريقه، لا يكاد يخضع لمراقبة و لا ملاحظة. و كانت صفته الدينية، و مازالت، تحميه إلى حد بعيد من تدخل السلطان المدني. و كان إقبال الناس عليه و مازال عظيما. " إن قيمة الأزهر الشريف عظيمة في مصر إلى حد الآن و شيخ الأزهر يتدخل في الشؤون العامة و السياسية و له رأي مسموع على عكس شيوخ جامع الزيتونة عندنا رغم أنه أقدم و أعرق من الأزهر. كما أن التعليم الديني لا يحتل مكانة كبيرة في بلادنا رغم إنتشار المدارس و بعض الزوايا التي تقوم بتحفيظ الأطفال و حتى الكبار القرآن الكريم و رغم رصد جوائز قيمة لحفظة كتابه العزيز إلا أنه لا يحظى خريجوا كلية الشريعة و أصول الدين بنفس الإهتمام الذي يجده زملاؤهم في العلوم الأخرى مثل الطب و الهندسة أو الرياضيات أو الفيزياء أو الإقتصاد بينما واقع الحال يقول أن التفقه في الدين أشرف من بقية العلوم كالطب مثلا لأننا نحتاج إليه يوميا و ذلك لحاجتنا للصلاة خمس مرات في اليوم بينما لا نذهب يوميا للطبيب إلى نادرا جدا.
في ماضي قريب كنا أمة يجمع علماؤها بين العلوم الدينية و العلوم الدنيوية و كنا حضارة تشع على العالم بأسره بينما اليوم تراجعنا كثيرا و صرنا محل سخرية و إستهزاء و أملنا كل الأمل هو في الاعتناء بالأطفال و بالمعلمين و إيلاء أهمية كبيرة لمادة التربية الإسلامية و التفكير الإسلامي و مواد أخرى مثل التاريخ و الجغرافيا مثلما نولي عناية فائقة للرياضيات و العلوم الطبيعية و التفكير النقدي المتمثل في التدرب على التفلسف و العمل على أن تكون مادة الترجمة مادة تدرس في التعليم الثانوي و في التعليم العالي دون التخلي عنها في أي سنة حتى إكمال الدراسة الجامعية حتى نكون باحثين متميزين ضمانا لمستقبل أفضل و مشرق.
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا