الدكتور احمد القديدي يكتب من باريس //جدلية الهوية في قلب الإنتخابات الفرنسية الدكتور احمد القديدي يكتب من باريس //جدلية الهوية في قلب الإنتخابات الفرنسية

الدكتور احمد القديدي يكتب من باريس //جدلية الهوية في قلب الإنتخابات الفرنسية

جدلية الهوية في قلب الإنتخابات الفرنسية



 د.أحمد القديدي 


 أقضي أياما في باريس و أجد نفسي يوميا في دوامة الإنتخابات الرئاسية القادمة (9أبريل الدورة الأولى و 25 أبريل الدورة الثانية الحاسمة) أقول دوامة عاصفة بلا مبالغة لأن كل وسائل الإعلام و الوزارات و مراكز قياس الرأي العام و مراكز البحوث السياسية معبئة و مجندة لهذه المحطة المصيرية لمستقبل فرنسا حيث ستحدد سياسات الجمهورية للخمسة أعوام القادمة.
 و لدينا 12 مرشحا قبل المجلس الدستوري ملفات ترشحهم أبرزهم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون و أهم منافسيه اليمينية مارين لوبان و اليساري جون لوك ميلنشون و في الوسط المعتدل فاليري بيكريس و عمدة باريس أني هيدالغو و في التطرف العنصري مع الأسف صحفي من أصول أمازيغية جزائرية (كما يقدم نفسه) إيريك زمور هذه التشكيلات التي تتصارع بالمعنى السياسي لتقديم مشاريع حكم و برامج حلول للمعضلات الإقتصادية و المعيشية للشعب الفرنسي تريد كل منها أن تجلب الناخبين في الدورة الأولى
 و لعلها تستهدف الارتقاء الى الدورة الثانية مقابل ماكرون (حسب استطلاعات الرأي) و يسجل المراقبون تزامن هذه الحملات مع الحرب الروسية الأوكرانية وهي في حقيقة الأمر حدث عملاق يزعزع كل الحكومات الأوروبية و يجعل المرشحين يتبارون في عرض مواقفهم من غزو أوكرانيا (من حيث تأثر الإقتصاد الفرنسي جراء العقوبات المفروضة على روسيا أو من حيث الإستعداد لقبول 30 الف نازح أوكراني قدموا إلى فرنسا للجوء المؤقت أو كما هو متوقع الإستقرار فيها نهائيا! 
مشاكل ضخمة متفاقمة على هذه الإنتخابات تجعلها إستثنائية في توقيتها و حمالة مخاطر من حيث التزام المرشحين بإيجاد حلول لها. و في هذه الظروف و بسبب ترشح اليمين المتطرف و الشعبوي تطرح قضية (هوية الأمة الفرنسية) نفسها بقوة أكثر من ذي قبل و تثار نقاشات و صدامات فكرية حول هوية الأمم و جيناتها ففي فرنسا مثلا و بمناسبة هذه الإنتخابات ونجاح الحزب اليميني العنصري (التجمع الوطني) في أن تحتل مرشحته مارين لوبان المركز الثاني ب19% من نوايا التصويت بعد ماكرون الذي يحتفظ ب28% منذ إعلانه الترشح للعهدة الثانية 
.تسابق المعلقون و المفكرون و السياسيون لتحليل ظاهرة صعود اليمين الذي يدعي الدفاع عن الهوية المسيحية و العرقية للشعب الفرنسي ضد المهاجرين و المسلمين خاصة و احتدم النقاش حول محور (ما هي هوية فرنسا ؟ هل الاقتصار على الثقافة المسيحية و العرق الأبيض أم هي في تعدد الأصول المكونة للمجتمع الفرنسي؟) و من جهة أخرى في نفس فرنسا وقع حجر حركة يمينية متعصبة إسمها (أنصار الهوية) لأن المخابرات الفرنسية إكتشفت أن لديها مخططات للهجوم المسلح على المسلمين 
أما نحن العرب عندما فتحنا عيوننا (جيل ما بعد الإستقلال العربي عن الإستعمار البريطاني و الفرنسي) أدركنا بأن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا و حضارتنا فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الإستقلال وأسسنا في تونس مثلا تيارا تأصيليا ينادي بالتعريب و يرفض التغريب داخل الحزب الدستوري البورقيبي إذ لم يكن متاحا تأسيس أحزاب أخرى و كان زعيم هذا التيار هو رجل الدولة الوطني محمد مزالي رحمة الله عليه و قد إجتمعنا حوله في مجلة الفكر التي ظلت تصدر لمدة واحد وثلاثين عاما من 1956 إلى 1987
 (بداية الاستبداد و توطين التغريب باسم مقاومة التطرف!) فاغتنمنا شخصية محمد مزالي وهو المولود في مدينة المنستير مسقط رأس بورقيبة و تاريخه حافل بالإنجازات و خدمة الدولة في عهد بورقيبة بإنشاء التلفزة و تأسيس المركب الرياضي و تأصيل وزارة التربية و التعليم ثم الدفاع الوطني ثم الصحة فبادرنا على مدى خمسة أعوام إلى ما سميناه تعريب التعليم حيث أعلينا من شأن اللغة العربية و أثرينا برامج التعليم في كل المراحل بعباقرة الإسلام في العلوم و الطب و الفلك و الجغرافيا والآداب و الفنون و الفلسفة و السياسة
 بينما لم يتعلم جيلنا نحن سوى جون جاك روسو و فولتير و فيكتور هيغو إمعانا في تغريبنا و تقليص معرفتنا لتاريخنا و بالتالي نشأ جيلنا و هو جاهل تقريبا بكل ما و من صنع هويته و أسس حضارته
 فقد غادر الإستعمار أرضنا و ظل مستعبدا أرواحنا و وجداننا. و عندما اطلعنا على أسباب نهضة اليابان أدركنا أن هذا الشعب رغم الهزيمة في الحرب العالمية الثانية إستطاع أن يحول اليأس الى أمل و الهزيمة الى نصر لأنه تشبث بأصوله الحضارية و لم يفرط في تقاليده بل أخذ من الغرب المنتصر أسباب العلوم و التكنولوجيا فقط و تفوق على الغرب نفسه بينما نحن العرب فرطنا في لغتنا و أمجادنا و تشبهنا بالغالبين كما قال علامتنا ابن خلدون
 و شاء الله أن يعين محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فبدأت السيوف الغربية الإستعمارية تشحذ لذبحنا بإعانة أعوان الإستعمار الثقافي و الإقتصادي في الداخل فنالنا ما نال كل صاحب مشروع تحريري من الإضطهاد و الملاحقات و المنافي و السجون غفر الله لمن شردنا و أجهض رسالة التأصيل!
 و في الحقيقة حين نقرأ الواقع الراهن في بلادي نعتقد إعتقاد المؤمنين بأن هذه الرسالة لم تجهض حيث عادت مشكلة الحضارة تطفو على سطح الخطاب السياسي بعد أن أشبعها العلامة الجزائري مالك بن نبي درسا و تعميقا في الستينيات. 
و هذه اللحظة التاريخية من حياة الشعوب وصفها محمد عابد الجابري بأنها فرصة إلتقاء الماضي بالمستقبل حين نوظف تراكم التجارب القومية لصناعة مصيرنا على ضوئها لا بمعزل عنها و لا ضدها وهو الخيار الأخطر.
 ليس من الأمانة العلمية أن نعلن إنفرادنا نحن العرب بإستعادة الوعي بقضية الحضارة و الهوية فالعالم من حولنا شرقا و غربا أصبح طارحا لهذه المعضلات الإنسانية. فالغرب المنتصر عسكريا و سياسيا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الإسترتيجية و الإقتصادية وضمان مناطق نفوذه السياسي و توسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية و ذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبيرالية العلمانية على ما سواها و دعوة الأمم الأخرى للإستسلام الحضاري و التسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى. 
و في الحقيقة لم يبدع برنارد لويس و لا صامويل هنتنجتون و لا فرنسيس فوكوياما نظريات جديدة لكنهم أعادوا صياغة النظريات الإستعمارية و الإستشراقية القديمة في شكل معاصر وصبوها في قوالب اللغة الحديثة المعولمة المقبولة.

التعليقات

سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا

أحدث أقدم

إعلانات

إعلانات