ثقافة الامبريالية وثقافة المقاومة في كتاب إدوار سعيد
د. احمد القديدي
في خريف باريس الدافي وتحت المطر الغزير والرعد والبرق و قبيل استفحال (دوميكرون) كان لقائي منذ شهرين بآخر عمل فكري للأستاذ الفلسطيني الامريكي (طيب الله ذكره و ثراه) ادوارد سعيد مترجماً للغة الفرنسية تحت عنوان: (الثقافة والامبريالية) اصدار مؤسسة «فايار» للنشر بالاشتراك مع اكبر صحيفة باريسية «لوموند» وهو كتاب أصبح من المراجع الكلاسيكية في دراسة الإستشراق و الإستعمار ويأتي هذا العمل ليجيب عن سؤال حضاري محير وقديم هو: ماذا كان دور الثقافة في نشأة الامبريالية والاستعمار منذ القرن التاسع عشر؟ وماذا كان دور الثقافة كذلك في مقاومة تلك الامبريالية وذلك الاستعمار إبان معارك التحرير من المغرب العربي الى المشرق العربي إلى الهند الى فيتنام الى افريقيا السوداء؟ وهذا السؤال العام سبق ان طرحه جامعيون ومثقفون متميزون من كل انحاء المعمورة وأجابوا عنه او حاولوا الاجابة عنه لكن بصورة منفردة ومتفرقة لم تعط هذا الموضوع ما يستحقه من درس وتمحيص وتعمق بل لم يخصص له احدهم كتاباً ثقيلاً من حجم كتاب إدوار سعيد. والسبب هو ان المؤرخين في جملتهم اولئك الذين ارّخوا لاستقرار الامبراطوريات كانوا مؤرخين بالمعنى التقليدي اي القائمين بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحركات التاريخ وتحولاته الكبرى أي ناقلي أحداث دون العناية بالعامل الثقافي شديد الاهمية لأن الثقافات هي ضمائر الامم وذاكرتهم وصانعة المخيلة الجماعية ورد الفعل الشعبي. فالثقافة فعل ميداني وهي تؤدي وظائفها بأدواتها المعروفة الظاهرة مثل الادب والفن والتعليم وبأدواتها الخفية الباطنة مثل الفلسفة والتاريخ والدعاية والاعلام والتراث الشعبي. ولذلك يقول ادوارد سعيد بأن الامبريالية استقرت بأدوات الثقافة واهتزت اركانها بنفس أدوات الثقافة المقاومة. وهو صراع بين الامم الغالبة والامم المغلوبة بمفهوم العلامة عبدالرحمن بن خلدون، فالامم الغالبة التي أباحت لنفسها حق احتلال امم مغلوبة وقهرها واذلالها استعملت الثقافة الامبريالية إما لتبرير طغيانها او لتمرير مخططاتها، أما الامم المغلوبة فلم يأت تحريرها إلا بأداة الثقافة التي زرعت الوعي وأيقظت الحس الوطني والديني لرفض الاستعمار والمطالبة بالاستقلال. وتجب الملاحظة بأن هذا الكتاب يعتبره صاحبه ادوارد سعيد تكملة طبيعية لكتابه «الاستشراق» الذي لقي صدى واسعا في المحافل الجامعية والفكرية نظراً للتحليل الموضوعي والموسوعي الذي قام به الاستاذ سعيد لرصد ظاهرة الاستشراق لا من حيث هي مجهود علمي بل من حيث هي تمهيد بوعي او بلا وعي لاستقرار الامبريالية التي هي بمعناها اللغوي بسط النفوذ الاجنبي ـ عرقياً واقتصادياً وسياسياً وعسكريا.. ثم ثقافياً ـ من قبل أمة على أمة تحت دعاوى «التمدين» او الوحدة او الالحاق أو اليوم بحجة العولمة!. وهنا يضرب ادوارد سعيد أمثلة ساطعة ناطقة مثل المثال الهندي فالمملكة البريطانية فرضت امبراطوريتها ـ وبالطبع امبرياليتها ـ على الهند التي كان عدد سكانها ثلاثمئة مليون نسمة، بجيش بريطاني قوامه ستون الف جندي يؤطرهم اربعة آلاف موظف ويصاحبهم تسعون الف مواطن مدني بريطاني. وهذه الحقيقة الغريبة يتفهمها كاتب روائي بريطاني هو (كونراد) ويبررها في رواية «طريق الهند» او رواية «كيم» كواقع طبيعي.. لامبرر له في الواقع الا بفكرة ضرورة بسط الامبراطورية البريطانية كأمر عادي.. بل لا مفر منه، والروائي الشهير كونراد لا تبدو عليه علامات العجب او الاعتذار للشعب الهندي الرافض لهذا المد الامبريالي، بل ان رواياته تتناسى قضية «هامشية» اسمها الشعب الهندي!!! ويحلل ادوارد سعيد كذلك الظاهرة الشعرية لشاعر بريطانيا (ت. س اليوت) حيث يتوارى الواقع الامبريالي خلف اجواء وفضاءات خيالية جمالية فنية لا مجال فيها لتحليل القهر اليومي المسلط على شعوب الجنوب من قبل الاحتلال البريطاني ونفس الشيء بالنسبة للاستعمار الفرنسي للجزائر تحديداً ولكل المغرب العربي منذ 1830. فقد مر ادباء ومثقفون فرنسيون كبار مرور الكرام على عمليات الابادة الجماعية والتعذيب كأنما ادبهم الروائي والشعري لا يتسع لاحتواء نكبة هذه الشعوب المسلمة المغلوبة على امرها، اذا ما استثنينا موقف الفيلسوف الوجودي (جون بول سارتر) ضد التعذيب في الجزائر.. لا ضد احتلال الجزائر.. واضعف منه موقف الكاتب الفرنسي المولود بالجزائر والحائز على جائزة نوبل (ألبير كامو). وتأتي ثقافة المقاومة الجزائرية والمغاربية لدى (فرانز فانون) ومالك بن نبي وابو القاسم الشابي والشيخ بن باديس والشيخ الثعالبي والشيخ البشير الابراهيمي ومفدي زكريا والشاذلي عطاء الله وغير هؤلاء كثيرون ممن يعود لهم الفضل الثقافي في احياء جذوة الكفاح والمقاومة التي تمهد الطريق للمجاهدين بالسلاح وبالسياسة للانتصار على الامبريالية. ويستشهد ادوارد سعيد بخطاب (رينولدز) الذي يقول: «ان الفن والعلم يشكلان اسس الامبراطورية حاولوا نزعهما عن جوهر الامبراطورية لن يبقى منها شيء يذكر لأن الامبراطورية هي التي تتبع الثقافة وليس العكس. ويقارن سعيد بين ثقافة المقاومة في الهند ومثيلتها في المغرب العربي الاولى ضد الامبراطورية البريطانية والثانية ضد الامبراطورية الفرنسية ويجد فيهما نسقاً واحداً من الهيمنة بالفن والفكر والتعليم باستضعاف الشعوب المولّى عليها، كما وقع عام 1876 حين اعلنت الملكة فكتوريا نفسها ملكة على الهند وذهب نائب الملكة (لورد لايتن) الى دلهي الجديدة لتكريسه حاكماً عليها كأنما ذلك امر طبيعي في مهرجانات «شعبية هندية» لتأكيد الطابع الثقافي التراثي للامبراطورية بينما الامر يتعلق بثقافتين مختلفتين تماماً بل متضادتين لا علاقة بينهما الا من منطق القوة والقهر. وهذا يفسر لماذا لجأ المثقفون المغاربيون الى ماضيهم ومجدهم الاسلامي ليستوحوا منه المدد والروح لمقاومة الاستعمار الامبريالي الدخيل. فكان الجهاد الثقافي توطئة وتمهيداً للجهاد بالسلاح من اجل التحرير. ويقرأ الكتاب بعد ذلك احداث العولمة الطاغية من هذا المنظور ليفتح عيوننا ـ نحن العرب ـ على حقائق الهيمنة الثقافية الجديدة المتخفية ببرقع الشعارات حتى يسهل الاستحواذ على ثرواتنا ومصائرنا. ولذلك ارجو ان تتولى احدى دولنا تعريب هذا الكتاب لأهميته و هذا نداء لوزير الثقافة القطري سعادة الشيخ عبد الرحمن بن حمد أل ثاني
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا