فاطمة بلغيث معتوق تكتب لكم..رولان بارت الذي قتل النص فاطمة بلغيث معتوق تكتب لكم..رولان بارت الذي قتل النص

فاطمة بلغيث معتوق تكتب لكم..رولان بارت الذي قتل النص

 

بقلم الاستاذه فاطمة بلغيث  معتوق 

 



يعتبر الغموض حتى لو كانت "الغرفة مضيئة"، و"العلبة نيّرة"، سمة من سمات "رولان بارث"، فيلسوف البنيويّة وما بعد البنيويّة، والنّاقد، والباحث عن نفسه بينه وبين نفسه، وفي الإشارات، والصّور، والّلسان، والّلغة، وداخل النصّ. نجده تَلَذَّذَ شَهْوَةً بالنصّ واضطرم جسده بلذّة لقاء النصّ. ظلّ يبحث عنه في الصّور فلم يجده، وحين لم يجدها (نفسه) "ألغى...مسح وعدّل " وهو الذي يقول بلسانه "وإنّ كلّ ما استطيع فعله هو أن أقول أُلْغِي وأَمْسحُ وأعدّل. وباختصار  فإنّي أتكلّم أيضا[1]". هو في الواقع لم يتنكّر للسانه وقدرته على إثارة الشغب في كل بحوثه الأدبيّة، واللسانيّة، واللغويّة، بل إنّه حين تلعثم وارتبط لسانه، وقبل أن يبلعه قدّم للقارئ مفاتيح دواليب الأثر النصّي وأعلن عن موت المؤلّف. فكيف يعلن النّاقد للأدب عن موت مصدر رزقه وسبب وجوده؟           

إنّ غموض بارث الّلذيذ، والشاذّ، أثار فِيّ رغبة متوّحشة للنّيل من بقايا أفكار ما انفكّت تذبح لذّة الصّورة ومتعة القراءة ونشوة تقبّل النصّ داخلي  بعد حالة هذيان وهسهسة لغويّة أصابتني في عقر الجسد والنّفس. وتعتبر مشكلة الشخصيّة التي يراودها هاجس ما من أصعب الشخصيّات تحليلا وأكثر الصّور تعقيدا، مثل صورتي كقارئ باحث. هذه الصورة اعتبرها رولان بارث علامة ومدخلا لدراساته اللسانيّة والسيميولوجيّة، وهي الّلغة ذات " طابع الإدراك الكلّي" وهي أيضا " تفرّد الّلحظة " و" وخزة خفيفة " غالبا ما يكون حدثها عميقا على المتلقّي حسب بارث. وأنا التي كنت عمياء منذ البلوغ  أحسب أنّ الجسد، وسلطة الجسد، وصورة الجسد الثلاثيّة الأبعاد، هي مصدر كلّ النّصوص المكتوبة والشفهيّة. أنا أرى نفسي من خلال ملكي الشّخصي وهو الجسد، كما أرى نفسي من خلال العالم الذي يحيطني ويحتويني، فأتعرّف على ذاتي فيهما وأشعر حينها وكأنّي في بيتي. فحين يعلن هيجل على موت التّاريخ، وبارث على موت المؤلّف، وحين يستبعد نيتشة المطلق ويقصيه، وحين يفكّر أفلاطون في التخلّص من كتّاب وشعراء أثينا، فإنّ في غيم هذا الحداد إعلان عن موت الإنسان وهو حيّ -وهو الذي يمثّل "الدينامو" لكلّ لغة ورمز وصورة وكتاب-. ويذكّرنا هذا الطرح بموت الإنسان على طريقة روجيه غارودي في البنيويّة.                          

الصّورة كمدخل للكتابة الأدبيّة:

الصّورة إذن من وجهة نظر عامّة، تعدّ مصطلحا متعدّد التّكوين، ويعتبر من أكثر المفاهيم النّقديّة  الأدبية دورانا واستعمالا،في حقل النّقد الأدبي والتشكيليّ أيضا. كما تعدّ أيضا مدخل من بين المداخل القرائيّة المتعدّدة والتي تسم النّصوص بخاصّية ما. قد تكون الصّورة الهيكل، أو الجسد، الذي يستمدّ منه النصّ قوّته والمعنى. وقد تكون الدّلالة التي تفضي إلى الرمزيّة والإيحاء في معناها الأدبيّ. و يمكن أن نطلق على المصطلح المفاهيميّ الغير محدّد بدقّة والذي عادة ما نجده

عائما في بحور من البلاغة المتعدّدة بمصطلح الغموض والاضطراب. فالصّورة هي مفهوم مرن وصعب في نفس ذات الوقت، متعدّد العلاقات، مزواج غير مستقرّ، يبحث عن التجديد.الصّورة كائن مزاجيّ متقلّب مثلي أنا وكأنه "الأنا" كأنه "الجسد" الغير مستقرّ الباحث عن "الهو" الغير موجود. الصّورة هي الجسد الباحث عن الانعتاق عن الكينونة .إذ لا يمكن أن يكون لها دلالة متفرّدة واحدة بل لها دلالات متغيّرة غير ثابتة .الصّورة في مجال البلاغة والّلغة هي التمثيل والتشخيص والتجريد والانعكاس والتعبير وهي في الفن التشكيلي سواء تحاكي الواقع والشكل والطبيعة والذات لتصير بيد الفنان التشكيلي أداة وماذة تتموقع وتتجسد، والمعيار التشكيلي الملتبس المستعصي على الضّبط .فكيف لهذه الصّورة الملتبسة المزاجيّة كما في النص الأدبي تتعاضد فيه الأشكال السّردية التي جاءت نتيجة إشباع روائيّ سبقته لذّة ترقّب سرديّ وما بينهما حالة من التمزّق والتهييج أو هي اللّذة ذات الطابع الثّقافي والتي تفوق الّلذة الأخرى التي نحبّذها عند ممارسة الجنس اللّطيف. ويقول عنها بارث في كتابه لذّة النصّ بأنها " لذّة أدوبيّة (قوامها التّعرية والمعرفة والاطّلاع على الأصل والنّهاية ) وإنّ كلّ قصّة (كلّ كشف عن الحقيقة) إنّما هي إظهار للأب الغائب (الغائب المختبئ أو المؤقنم)". والصّورة كما اعتلت مخيّلتي ومن وجهة نظر نفسيّة بارتيّة بنيويّة هي الكلام و الّلغة التي تلبسها الرّاقصة و التي يسعى الكاتب إليها مستعجلا ملهوفا لينزع عنها ملابسها بكل رشاقة وشبق غير منتهيان. عملية نزع الملابس عن الرّاقصة والتعرية إذا كان بالترتيب والعجلة معا، سيكون ذلك سببا في حرق مراحل الّلذة التي ستنتج نصّا انطلاقا من صورة واحدة. بينما التقيّد بوقائع الطّقوس في تعرية جسد الرّاقصة بإيقاع متوازن سينتج عنه إثارة مستحبّة قوامها التدرّج في إنتاج المتعة اللغويّة القابلة للقراءة.                                                                 

إن الكاتب الذكيّ هو الذي يكتب نصّا صالحا للقراءة دون سادية أوعنف لغويّ، لأنّ هذه السّادية سينتج عنها في كلّ الأحوال موت الكلام وتعفّن النصّ مع الوقت، والذي سيفضي إلى موت القارئ للكتاب –للنص-. وفي مداعبة الكاتب للصّورة مداعبة ارستقراطيّة بالحذف والزّيادة، والوصل والفصل، وتوريق المعنى بتدرّج منطقيّ دون ابتلاع والتهام للّغة والكلام وجزّ الصّورة بعناية وتكتيك ودقّة، سيفضي إلى حرارة داخل النصّ والتي من دونها لا يمكن إدارة أي متعة .المتعة ستبني نصّا منحدرا من الثقافة تتعدّى "الثغثغة والهسهسة" الّلغوية  التي حدّثنا عنها بارث .هذه الثقافة الأدبية سينتج عنها تكوين جمعيّة أحباء النصّ ... وبين لذّة النصّ، ونصّ الّلذة، نجد "النصّ الذي يرضي ...فيملأ...فيهب الغبطة. انّه النصّ الذي ينحدر من الثقافة فلا يحدث قطيعة معها ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة ".                                                                                                    

  إنّ طرح السّؤال وممارسة الشكّ وضرب القضاء والقدر الفكريّ، ومحاولة التحليل والبناء والهدم، وإعادة البناء ونقده ودحضه، تعتبر من أبرز سمات البحث الأكاديمي البنّاء والتنويريّ. وهنا يتشقّق السّؤال التّالي ويخرج مستنفرا من الصّورة سؤال يمكن تجسيده في استفهامات متعدّدة تفضي في النّهاية إلى نفس الهدف وإلى نفس الوجهة لكن بطرق مختلفة. ولئن أصدرت حيويّة الفكر الفلسفي النّقدي القائم على مبدأ العقلانيّة قديما حكمها بشأن موت الإله والإنسان زمن نيتشه، فقد سعت منهجيّة الفكر البنيويّ حديثا زمن بارث إلى استخراج شهادة موت لصاحب النصّ. وإن كان نيتشه قد أعلن عن موت الإله سابقا لغرض فلسفيّ بغية تعويض الإله بالإنسان الأعلى، فقد بادر بارث كاتب القصّة والنصّ بالتحيّة وأعلن موته الرّحيم دون شفقة. إنّ موت الكاتب صاحب الأثر، سيفضي بالضرورة إلى ميلاد طرف آخر لهذه المعادلة. وكانت ولادة القارئ أو النّاقد كتعويض لموت الكاتب.وما دام مبدع النصّ قد خرج من المعادلة فانّ القارئ سيرتع في قاب قوس من الحرّية، ليستبيح النصّ ويفعل ويستفعل فيه ما شاء.                                                                                                           

 

 

   لذّة النص من لذّة النص:

إنّ سؤالي الّذي مهّدت له الطريق كي يبرز يقول: عن ماذا كان يبحث رولان بارث وهو يحوم حول إطار الصّورة وخلف إطارها؟ هل كان يبحث فعلا عن النصّ والّلغة؟ أم عن المعنى؟. عن معرفة الآخر؟ أم عن الإنسان؟ أو ربّما عن معرفة نفسه وهو الّذي يقول "لا يمكنني أن أكتب ذاتي ومن هي هذه الذات التي تكتب ذاتها". أصاب بارث البنيويّ التكوين المؤلّف في مقتل ولم يعلن عليه الحداد ولم يرتدي الأسود لأجله ليكون هذا الّلون صورة تعبيريّة وإعادة لقراءة ملامح الموت بصورة مغايرة للمألوف. موت المؤلّف يبدو حزينا، لكنّه مجازيّا تتّسع فيه دائرة الفرح لولادة نسقا ثقافيّا جديدا (النّقد). فقضيّة إعلان موت المؤلّف وخروجه من ملكه الفكري بسلاسة وبساطة أمر يتطلب وقفة للتأمّل ولإعادة النّظر في الإبداع الأدبي، وبما أنّ الّلذة والمتعة الجنسيّة كما نعرفها أمر لا يصدّق يخرجنا من السّياق النفسي العادي لسياق متعة عابرة مؤقّتة تصيبنا برعشة لذيذة، فانّ لذّة النصّ عند بارث قد اقترنت بموت المبدع. وقد خلخل الخبر مفاصلي برعشة مدمّرة للعضلات ومهشهشة لعظام الرّكبة والفخذ والمؤخّرة. وأما موت صاحب النصّ وخروجه من رزقه وميراثه الفكريّ رسم لي صورة على هامش الحرّيّة التخيّليّة لا توصف، لكنّها معبّرة ومجازيّة. وخيالي طائر لقلق يقف على رجل واحدة، رجل اختفت في غياهب الرّيش المنتفش، ورجل واقفة صامدة تستمتع بلذّة القصّة. والّلذة كيفما كانت عند كاتب النصّ أو عند القارئ " لا تتعارض مع عذابات المؤلّف".                                                                                                                             

إنّ بين لذّة قارئ لا نعرفه، ولذّة صاحب النصّ فضاء. وهذا الفضاء هو "إمكان لجدل الرّغبة" كما يقول بارث، أما موت المؤلّف فهو مصيبة وحالة من حزن وحداد غير منتهي والإعلان عن وفاته أشبهها بمبدع قضى أربعة سنوات في بناء فيلاّ تفتح على البحر بتقنيات بناء وترميم وديكور حديثة ثم مات في حادث سير دون سابق إعلام وترك البناية للورثة يقضون فيها عطلة الصّيف و ما من أحد يضمن للمرحوم حسن تصرّف الورثة في المرسوم المعماري والمحافظة عليه. أو كامرأة حبلت وحملت جنينها تسعة أشهر وماتت على النّفاس وتمّ إيداع الرّضيع لدار الأيتام ليتكفّلوا به فيكون مصير تربيته وتكبيره وتنشئته عبارة عن ظروف مجهولة. لذّة النصّ تحيلنا بالضرورة إلى هزّات ورعشات وارتجاجات على المستوى الجسدي وليس في موت المؤلّف أيّ لذّة وهذه الضّرورة تحيلنا مبدئيّا إلى رفض ظاهرة موت ثقافيّ غير مدروسة وغير طبيعيّة ولم يكن للموت وقت ولا مناسبة ولا طعم ولا رائحة. إنّه جسم لا مادّي. وفي موت المؤلّف إعادة لتوزيع الأدوار. حيث هناك موت للّغة والكلام والصّورة وبالتالي إعادة لقراءة الذّات. وعند إعادة التوزيع تتمّ القطيعة دائما مع شيء ما، مع جانب متحرّك فينا في باطننا، قد يكون هذا الشّيء هو الزّمن ...الذّات...الفضاء...النصّ، أو ربّما الصّورة التي أردنا رسمه. وليس الزّمن والفضاء والنصّ بشبقيان، وتظلّ الذّات ومن حولها قوّة شبقة وتبقى لذّة النصّ، والرّواء، والكتابة، والسّرد، والرسم، والّلغة، والكلام، لحظة غير مستقرّة غير ممكنة لحظة جريئة ومؤامرة خبيثة الصّنع والتّكوين كالّلحظة التي تتذوّقها الدّاعرة الجريئة في ممارستها الجنس فوق فراش عابر لحافه من حرير منسوج بخيوط وكلمات تشبه حبل المشنقة. كلّما استقوت أصوات الّلذة، وأنات المتعة داخل النصّ، كلّما كبرت حاسّة تذوّق الخدوش التي فرضتها صورة الغلاف الجميل للكتاب. أحيانا يقطع حبل المشنقة في الّلحظة التي يلتذّ فيها الكاتب، أي في قلب المتعة، وقبل ملامسة رعشة الانتهاء من المؤامرة، حينها يصير الفضاء مكانا للضّياع، للقطيعة، للانكماش، للصّدع، للعصاب، وينخفض الصّوت مع انقطاع المتعة. فهل من الطبيعي والعدل قطع  صلة أي مؤلّف بالنصّ الذي كلّفة جهدا وطاقة جسمانيّة ذهنيّة وبصريّة تضاهي الطّاقة التي نبذلها معا أنا وأنت في تلقيح بويضة في مرحلة الشّبق والتّزاوج قصد تكوين روح جنينيّة.                                                            

بين الصّورة الذهنيّة والصّورة البصريّة الجسد هو الفاعل في النصّ وليس الصّورة:

 

لقد تعدّدت أنماط ومكوّنات الصّورة إلى حدّ أصبح يشمل كلّ الأدوات التعبيريّة الفنّيّة. وفي ظلّ هذا الاتّجاه جرى توسيع مجال الصّورة على نحو مختلف عن الصّورة التخيّلية التي أنتجت في ما سبق. وداخل أيّ صورة هناك الظّاهر منها والخفي، وتؤول عمليّة إحضار الغائب من خلال المتلقّي أو القارئ ووفق هذه العلاقة تتحدّد قيمة الصّورة وأهميتها داخل الأثر والنصّ. فالقارئ يحمل على كاهله فهم الصّور وتحديد وظائفها داخل المتن وما تشير إليه، غير أن هذا المجال الجديد للصّورة تمادى في أنماطه ليشمل الصّورة الذهنيّة والبصريّة وصورة الغلاف.             

نحن بصدد الحديث منذ بداية الدراسة عن أنواع من الصّور تختلف عن نظيرتها داخل السّياق الأدبي. هي صور على علاقة بالواقع الخارجي الغير لغوي كالصّورة الذهنيّة النّابعة عن العقل، والتي توجد بالدّماغ، والصّورة العيانيّة، والصّورة الذاتيّة، للأنا، والآخر، والصّورة المستجدّة عن الصّور الرقميّة، والفوتوغرافية، والتلفزيونيّة. وهناك أيضا صور الذّاكرة والذّاكرة الجماعيّة، النابعة من تراث عصر ما، لكن رغم هذا التراكم النوعي لأنماط الصّورة المختلفة ورغم اتّساع دائرة مفاهيمها فإنها إذا ارتبطت بسياق أدبي فإنها تظلّ محكومة بالبعد الّلغويّ ويقول سي دي لويس في هذا السياق أن الصّورة: "إن الوصف والمجاز والتشبيه يمكن أن يخلق صورة .أو أن الصّورة يمكن أن تقدّم إلينا في عبارة أو جملة يغلب عليها الوصف المحض...إن الطّابع الأعم للصّورة هو كونها مرئيّة وكثير من الصّور التي تبدو غير حسّيّة لها مع ذلك في الحقيقة ترابط مرئيّ باهت ملتصق بها ".                                                                                     

  أنا الباحثة حين أحتفي بلذّة النصوص على غرار صورة بارث:

على غرار ما ذكرنا: إذا كان رسم قوام الصّورة هو "الكلمات" حسب "سي دي لويس" فإنّ رسم قوام النصّ، هو "الجسد" بعينه. أي بأعضائه التناسليّة، والغير، والأعضاء الفكريّة الثقافيّة طبعا، وكل ما يحمله من طاقة وحرارة وشوق ورموز. هذا الجسد هو "النصّ الظّاهر"، والنصّ المكتوب هو "الجسد المتعة"، أو "النصّ المتعة"، باعتباره يمثل الّلذة التي ستصلنا عند القراءة. لقد انقلبت الصورة الطبيعيّة للأجساد المختلفة رأسا على عقب، وبقي لكل جسد دوره، ولكل جسد متعته ولذّته، وما بينهما شيطنة كاتب سلكت طريق الانحراف. شيطنة " تستطيع أن تجعل من الشّكل انحرافا ". ومن النصّ مصدرا لمتعة شرسة يجب استهلاكها دون إسراف ينتج عنه قذف سريع وربّما حمل غير منتظر وغير مبرمج في قائمة برامج السّنة.                                

نخرج الآن عن السياق فنقول: إنّ أفكار جسدنا ليست كأفكارنا، فالجسد الجنسيّ صورته مربكة، وظيفته نابعة من حاجة عضويّة هو نفسه النصّ الظاهر، مصنوعا في باطنه من جملة العلاقات الجنسيّة. وأفكارنا الذهنيّة مكوّنة من أجزاء أخرى مفتوحة لنيران لسان يشتعل، رغبة في التّعبير والتناسل الّلغوي، ليلد صورة نصّيّة ذات صيغة إنسانية ثقافيّة قوامها متعة جسديّة خياليّة فاضحة وإنّنا نعتبرهذا التفاعل بين جسد وخيال هو نتيجة علاقة حب مشبوهة بيننا وبين النص الذي صار يمثل فضاء نادرا وشاذّا. ننغمس في النصّ نحارب الكلمات ونضربها ونهدّدها بالّلغة كي تنساق لغوايتنا، ووهمنا، وخيالنا الفاسد المنحرف طوعا. الّلذة في النّهاية ليست عنصرا من عناصر النصّ، ولا هي بقايا معرفة ساذجة، بل هي كما وصفها بارث "شيء ثوريّ وغير اجتماعيّ في الوقت نفسه ". ولا يمكن لأيّ جماعة، ولا لأي عقليّة، ولا لأي لغة فرديّة، أن تتعهّدها. أتراها تكون شيئا محايدا؟ إننا لنرى جيّدا أن لذّة النصّ شيئا فضائحيّا. وليس ذلك لأنها غير أخلاقية ولكن لأنها خياليّة.                                                                                                         

بعد هذه الحرب النفس/ جسمية، بين لغة وجسد وصورة خياليّة تخلق حرب لسانيّة سيميولوجيّة ليتمّ بكلّ بساطة الإعلان عن موت المؤلّف "بوصفه مؤسّسة "واختفائه المدني والانفعالي والمكوّن للسّيرة " وتكون هنا قد انتهت مهمّة الكاتب، لتبدأ مهمّة القارئ. في الواقع مات جسده الظّاهر(الجسم)، وبقي جسد المتعة (النصّ) ملكا بيد القارئ يقيم فيه طقوسه، وصلواته، وقيام الّليل أيضا، ثم يتّخذ منه (النصّ) فراشا ليكمل فيه طقوس الخيانات. فهل يحتاج هذا القارئ النّاقد للنصّ إلى صورة المؤلّف الذي تمّت إزاحته عن النصّ قسرا وهل سيبقى احتياج المؤلّف إلى صورة القارئ احتياج إلزامي يذكّره بلعبة الغواية ليعود للحياة من جديد؟                                         

 

الغواية اللفظيّة من خلال تجربتي كمدخل لإذابة الحدود والخروج عن القواعد التقليديّة بين كاتب وقارئ

 

عندما يكون الأدب أو الأسلوب الأدبيّ مثيرا داخل القصّة، أو الرّواية كتب بلسان امرأة. أسلوب متشيطن يسلّط على القارئ جموحا نفسيّا فطريّا لمعانقة هذه الكلمة المثيرة ومعانقة كاتبة النصّ أيضا بطريقة لايستطيع الفكاك منها إلا بضجر وصعوبة. وحين تتحوّل الكلمة، والّلغة، والّلفظ، وروح الكاتبة وسط هذا الضجر الأدبيّ إلى معاناة وصراع وأداة تأخذ بيد القارئ حتى لايضلّ في متاهات النصّ والخيال الذي حرّكته فيه غواية الكلمة، فتنقطع صلته بها (الكلمة) برغم أنّه داخلها مستوطن. عندما تتجندر الكلمة تُسَلْطِنْ فتتموضع، وتتموقع في صميم ذات القارئ لتحرّك فيه السّواكن، والثّوابت، وتغريه وتغويه. ثم تحرّك فيه رغباته الطبيعيّة المشروعة لدرجة الاستمناء الرّوحي واغتصاب الذّات وجلدها. هل يمكن الجزم والقول أنّ "الخيانة الأدبيّة" كمفردة مفتعلة تلازم النّفس قبل الجسد بين كاتبة ومتلقّي هي من جملة الخيانات الإنسانيّة موصوفة مع سبق الإصرار والترصّد؟                                                                                               

إنّ المتقبّل للنصّ وخاصّة من الجنس الرجاليّ في تركيبته لا يحتمل وَخْزَ إِبَرٍ لُغويّة مصلها يحوي مواد مثيرة لامرأة قيل أنّ كيدها النّابت في عظام خصرها وبين مفترقات فكرها في الحياة وداخل النصّ الأدبيّ لعظيم. فما ذنب الكاتبة للأثر إن هي تشيطنت وغوت وغزت الكلمة؟ وما ذنب القارئ حين يخلط بين الوهم والخيال والجسدي والرّوحي وبين الأدبي التعبيريّ؟                      

  من خلال نصوصي التي أنشرها على المواقع الاجتماعية، كنت أبدو لنفسي، بصدد ممارسة حقّ في الكتابة بكيفيّة تلقائيّة، لا تخلو من الصّدق التعبيريّ مهما علت قيمة التخيّل. ووسط الّلفظ وقت السّرد  تختلط الأوراق بين كاتبة وقارئ، ويصعدا الاثنين فوق سرير غريب أسطوريّ ليس فيه تراجيديا ودراما، بل أشياء أخرى لا يفهم معناها إلاّ من استطاع فهم لغز الكلمة. السّرير طبعا هو النصّ هي تصعده بجيدها الحكائي، وخصرها المعنويّ الرّقيق، وهو يركب فوق الكلمة التي أثارت رغباته، فيغتصب منها ما استطاع اغتصابه، ويتلذّذ حدّ السّكر. ثم يصحو بعد ركود ذهنيّ كان يسيطر عليه في فعل القراءة الأدبيّة. وحين يغفو من سباته، يجد نفسه قد وقع في جبّ عميق حفرته امرأة هي نفسها الكاتبة. حفرته بفأس وثغرها باسم، ليس ليقع فيه بل ليقع فيها (النصوص) في حبّها، ليعشق كلماتها.                                                                                              

اليوم نحن نعيش فعلا أزمة قارىء، أمّا النصّ فهو موجود. لماذا يفوق خيال القارئ أحيانا خيال الكاتب فينخرم النّظام وينتصب السّاكن ويتفتّق قفل (السوتيان) أي حمّلات الصدر عن طواعيّة فتتورّد حبّات صدر صغير لم يبلغ بعد حجم حبّات الرّمّان داخل كمّامات حمّالاته، ليبدو (السوتيان) كفيل بإنضاج حبّ الرّمّان قبل موعده. ماذا يحدث حين يكتشف الحليف الرسميّ للمشروع الأدبيّ (القارئ) أنّه مخدوع، متوهّم، وأنّ الكلمات هي قطعة قماش نسيجها خيوط لغويّة تلتقي عند الّلحمة والسّداة لتنسج زربيّة دافئ صوفها يحلو فوقه السّهر؟صوف تونسيّ الهويّة جزّته يد امرأة تونسيّة الهوى من رؤوس قطيع غنم حرّ يسرح فوق جبال الكاف العالية مثلا. الكلمات في الحقيقة لا يمكن معاشرتها ومضاجعتها مهما حاول وتوسّل وإنّ السّرير الذي صعد فوقه ليمارس الجنس أدبيّا عبر تفعيل آلة الخيال لا يشبه سرير بروكست الفرويدي الشّافي نفسيّا، بل هو سرير يحتوي على كامل مكوّنات سرير النّوم الذي نختلي إليه وقت الحاجة، لحافه وقح فاسد، ومنحرف، تماما مثل لذّة بارث. مائه شفّاف لا ينشف بسرعة فوق القماش، لزج، عباراته وطريقة تطريزه ثملة تحيك غرزة وتمرّ على الغرزة الموالية دون تمرير الخيط عليها فيبقى الّلحاف ورمزيّته عبارة عن خطّ غير مستقرّ لا يعرف الرّاحة والسّكينة. متبرّج في طيّات شرشف الّلحاف نفسه، تعبيره حارّ حدّ السّيولة، لزج لدرجة التخثّر، صعب المراس. سرير ليس سهل النّزول من فوقه والدّخول من بعده للحمّام للاغتسال والطّهارة ومسح ما علق به من ذنب اغتصاب الكلمة، إباحي، عذري. هذا السّرير الّلغوي يصعده القارئ برغبة ودون إكراه. إذا حصل وتمّ الرّضى عن مردود الّلغة والنّثر السّردي عبر استثارة شيء ما بداخله وإذا وفَّقَتْ العبارات، والتركيبات في أداء واجبها في مُخيَّلتِهِ ولعبت لعبة الكاس، ستصل الرّغبة به منتهاها حدّ الرّعشة (القارئ). أمّا عن صاحبة السّرير(الكاتبة)، فهي الأصل هي امرأة ذات فكر، هاوية، لغويّة، وغاوية، ولا تصلح للفراش كما خُيِّلَ للمتقبّل وساكن السّرير السّردي (القارئ). هو في النهاية، جسد حيّ متحرّك، متغيّر، لا يقبل الهزيمة فوق فراش امرأة، يحاول استفزاز خيالها عبر مراسلتها...يحاول التقصِّي، يُفَعِّلُ مطرقة الشكّ بداخله، فيصوِّب سهاما من اتهّامات باطلة، فقيرة، شاحبة، قاسية، عقيمة، أصاب رحمها داء البرص فشوّهت جمال الشفتين أسفل السافلين. بين هذا القارئ الشّغوف الشابّ المُخْضَرِّ شعر صدره وشواربه، والكاتبة لأدب مثير، هذه الأنثى الولود لِضَنْوٍ فكريّ، وبشريّ، يوجد واقي ذكري زهريّ الّلون بطعم الفراولة، يفصل بين خيال كاتبة غاوية للحرف، ومتقبّل يبحث عن نشوة عابرة فوق سرير عابر يمتصّ منه لعابه ويكون قد وصل لتحقيق رغبة داخل النصّ. هذه الرّغبة وإن بدت جنسيّة في ظاهرها، إلّا أنّ باطنها يخفي موهبة تتمثّل في كون صاحبة النصّ لا تُفرِّق ولا تفْصِلْ  بين كونها كاتبة وامرأة وأم وأنثى. هي كلّ العوالم في كتلة واحدة. وعندما تكون الكلمات خطّ أزرق يصل حرف الكاتبة بحرف القارئ طولا وعرضا، فإنّ غمزة واحدة كفيلة بأن يلتقيا الاثنين ويتركا السهرة الّلغويّة، ويبقيا الاثنين ينتظران الملقى عند باب الكلمة ولا يفتح هذا الباب ويبحران وينتقلان على دنيا جديدة فيها القوافي والوافر وشفاه ترسم بحرها سبع قبلات على الدّاير. و"ياما تحت السّواهي دواهي،  وياما خلف المراعي ذئاب" يقول المثل الشعبي. أحيانا يخلّف الصّراع الّلغوي هوّة وبعدا وشرخا تواصليّا بين كاتبة وقارئ، فلا تظنّون أنّ بهذا البعد ستخلص القصّة أو ستنتهي عنده الغصّة. فالكاتبة الذكيّة الهاوية المتشيطنة، لا تركع أبدا لهول الّلكمات، والّسباب، والشّتائم، بل بالعكس حينها بالذات ستقف على كعب عال فتصير الساق الواحدة عكّازا لجسد كامل، وللسّاق الثّانية متن وتعويذة سحريّة تمسك بالمادّة الأدبيّة كي لا تنهار سياقاتها التركيبيّة وتضيع الجمل بين (الابتدائيّة والخبريّة)، وتقديم مبتدأ على خبر، وتتفتّت أخبار الرّواية أو القصّة أو السّرد في مخيّلة القارئ الممحون المتشيطن تماما كما كاتبة النص. يقول بارث: "ولكنني في النص لارغب في المؤلف باي شكل من الاشكال .فانا محتاج الى صورته (وهذه الصورة ليست تمثيلا له ولا اسقاطا عليه) مثلما هو محتاج إلى صورتي (وإلا فإنه يثغثغ)".                                                   

                                                                                                 

بارث أعلن عن موتي ككاتبة ونعلن الثورة على النص:

 

لقد كتب على المؤلّف لأيّ نصّ (أدبي وتشكيلي ومسرحي...)، في عالمنا الثّقافي العربي أن يعيش في دوّامة. يدور، ويدور، ويدور حول الصّور، والعلامات، ثم يرجع لقلب الرّحى. الكاتب في عالمنا العربي يعيش منزويا طول الوقت،  وحين يموت يقع تكريمه، وتوسيمه في حفل تتكفّل وزارة الثّقافة بتمويله، وقد تنكّرت له وهو في ذروة عطائه. المؤلّف حين يموت تطول رجليه في محمل الموتى، وهو مغلّف بكفن أبيض، وأنفه وأذنيه محشوتين بالقطن، ويديه مكتوفتين مشدودة بوثاق غير قادرة على قلب الصّور على بطنها ودغدغتها. هو في الواقع كان متوفّى منذ زمن في عداد الموتى تقنيّا، في زمن طغيان الصّورة الرّقمية والكتاب الرقميّ والجرائد الالكترونيّة. فليس بغريب علينا إعلان بارث لموت المؤلّف في الأصل، لأنّنا متعوّدين على موته بالحياة. وهو المنسيّ. لكنّ الغير مألوف للعادة، والغريب في الأمر، أن يقع الإعلان عن موت المؤلّف وعينيه والصّورة تشهدان على وجوده في النصّ. وتقديم هذا النصّ من بعد ذلك في طبق من فضّة لكائن غريب، لا نعرفه اسمه "القارئ" و"الناقد". وكم من كاتب يعدّ ميّتا اليوم وهو الحيّ يرزق، المنتج للمعنى للأدب للثّقافة وللنص.                                                                                   

                                                                          

                                                                                        

يوم أعلن بارث عن موت المؤلّف قتله ولم يتكفّل بمراسم دفنه وطقوس تأبينه، وقراءة ما تيسّر عليه من فاتحة وتعويذة. قتله وتركه نفسا جيفة، تتضرّع الحروف، وتتوسّل الأرض والتّراب الذي سيحمل جسده والعظام في جوفه. إنّ بارث هو السّادية المجازيّة، تمشي على قدمين وعقل متناقضين. جرّد المؤلّف من ابسط حقوقه بعد الممات. لم يفكّر بارث بعودة هذا المؤلّف يوما من مماته وسباته ليعلن عليه الحرب –أنا أعلن الحرب على بارث اليوم-، لم يكن هذا الفيلسوف بارعا في القتل، في قتل نفسه، ولم يحسب المعادلة جيّدا. أنا الكاتبة الميّتة الحيّة، كيف أسكت عن قاتلي وألتمس له الأعذار؟ نحن هنا أيّها البارث لازلنا نعيش الّلذة في مرحلة الشّبق وفترة التّزاوج وبين الفصول، لازلنا كالقطط نتمرّغ الأرض والأرجل ممدوة لأعلى أعلى النصّ وأسفله، وإذ توفّانا الأجل يوما تموت صورتنا ويبقى النص. وعند كلّ صفحة من النصّ ستجد نصف ليمونة و أوراق بقدونس، مبعثرة خضرتها بفعل تمرّغ الّلسان على الّلغة.                                                   



[1]  هسهسة اللغة، مقال نشر في المجلة الإلكترونية "الجمهورية"، بتاريخ 10-06-2006، متوفر على الرابط التالي: https://www.yemeress.com/algomhoriah/2086821

التعليقات

سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا

أحدث أقدم

إعلانات

إعلانات