بحث الاستاذه فاطمة بلغيث معتوق
خاص بموقع الثقافية التونسية
يعتبرموضوع إنشاء المتاحف وتأسيسها من المواضيع والأفكار الأكثر أهميّة في تاريخ الشّعوب، غير أنّ تاريخنا المعاصر في تونس لم يعد مبال بتوثيق ما تبقى من تاريخه القديم والمتوسط والحديث أيضا. الراهن في تونس هو شبكة صيد علقت في أسنان حوت كبير على ضفاف المتوسّط...المتوسّط؟ إنّها عبارة لمّ الشمل وإعادة البناء والتخطيط المتوسّطي الذي لم يعد له حضور في تاريخ تونس الثورة...
.وقد علّمنا التاريخ أنّ إقامة المتاحف, إنّما بدايتها شغف وولع لا متناهي في تجميع ثقافات حضارة ما, وخاتمتها هو عبارة عن بناية صرح يخلّد لذاكرة جماعيّة لا يمكنها أن تموت وقد وقع حفظها في مكان يسهر على حراسته أمن وسلاح فيه رصاص . والويل لمن يحاول المساس بقدر من فخار اسودّ لونه أو آنية أو حتّى وثيقة مكتوبة بحبر عبري كان أو أرامي أو عربي، لأنّه لا يمكن فهم أهمية الحضارات بعيدا عن المتاحف. المتحف إذن هو المكان الذي يكفل حقّ مخزون الحضارات والثقافات, تماما كما تكفل ديار الأيتام أيتام الحروب والموت، وعلى سبيل ذكر اليتم والأيتام فإنّ المتحف اليهودي الوحيد في العالم العربي وشمال إفريقيا الموجود بالمغرب أصله فضاء كان يحوي أيتام أطفال اليهود المغاربة وربّما تكون تونس البلد العربي الثاني الذي بدأ يعمل على تأسيس الفضاء العامّ لبداية تكوين متحف يضمّ كل محتويات الثقافة اليهودية بتونس – فكرة إقامة متحف يهودي في تونس هي فصل جديد لإعادة تقييم عاداتنا وتقاليدنا المشتركة- بين يهود ومسيح ومسلمين. واليهود التوانسة هم جزء لا يتجزّأ منّا,من حضارتنا, حتّى لو اختلفنا إيديولوجيّا وفكريّا فإنّ البعد الثقافي الشامل يجمعنا في إناء واحد.
على إثر زيارة الغريبة سنة 2016 والذي يقام كلّ سنة في المعبد اليهودي بجزيرة جربة التونسيّة, انعقد بالتوازي الملتقى الثالث لكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، بالاشتراك مع مخبرها المعروف بكثرة حواراته وندواته المتعدّدة حول التراث في كامل ربوع تونس. انعقد الملتقى يوم 25 ماي 2016 بحضور وزيرة السياحة وقتها “سلمى اللومي” ورئيس الطائفة اليهودية “روجيه بوسميث” ومحافظة التراث بالمتحف اليهودي بالمغرب الدار البيضاء “زهور بوحليل” ومحافظة المتحف اليهودي بتركيا “ماليسا” ونظيرتهما بفرنسا أيضا وتونس السيدة “سعاد” محافظة التراث بمتحف باردو, كما حضر الندوة مجموعة من الباحثين في مجال التراث بمنوبة والبعض من يهود تونس القاطنين بجزيرة جربة التابعين لها . وتعتبر فكرة إنشاء متحف يحمل عادات وطقوس وكلّ محتويات الحضارة اليهودية في تونس فكرة عميد كليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة السيّد “الحبيب القزدغلي” . وجهة نظر العميد محتوى أبعادها كان مبنيّ على فكرة التصالح والتسامح مع تراث يشكّل جزء كبير من تاريخ تونس , ويقول بخصوص المعبد المتروك بتونس:” أنّه لا يمكن لرجال الأمن أن يظلّوا رابضين أمام المعبد يحرسون الجدران وكنيس وسطه فارغ من المحتوى والمضمون . يجب أن يحرسوا فضاء وآثار وسطها محشو بحضارة وتقاليد وشعائر وكلّ حياة وثقافة اليهود”. وحراسة الذاكرة تتطلّب وقفة حازمة من قبل الدّولة وأهل الاختصاص ومواطن أيضا.
ظلّت فكرة إنشاء متحف لحفظ عادات وتقاليد يهود تونس معلّقة لليوم، رهينة قوّة الإرادة و الصّبر وتحمّل عناء البحث في مخزون التراث المادّي والغير مادّي من قبل مختصّين في المجال وغير المختصّين تماما كفكرة إقامة متحف للفن الحديث والمعاصر. –المتحف الثاني المذكور سنوليه اهتماما في نص لاحق-.
قد تكون الأوضاع السياسيّة سببا في تلاشي فكرة إنشاء المتحفين في تونس، وقد يكون الوازع التنظيمي لأولويات الوطن سببا أيضا. فكم من فكرة ماتت وكم من نجاح كان حليف مجموعة اتّقدت أفكارها وانطفأت. هكذا عودّنا تاريخ قصص إنشاء المتاحف في العالم ,بحيث تبدأ الفكرة بشغف في تجميع المخزون قطعة قطعة لينتهي بها الأمر لمزار للسيّاح من مختلف دول العالم تماما كما هو حال حجّة اليهود بالغريبة جزيرة الأحلام جربة.
حجّة يهود تونس بالغريبة
بعيدا عن فكر الإقصاء الذي يشوّه بطاقة الذاكرة في ركن من دماغي منذ زمن بعيد … وبعيدا عن بقايا تركة و ميراث آيل للسقوط في زمن غريب الأطوار, وتاريخ يعاني من شذوذ عاطفي ووجداني- نفسي, تعتبر فكرة إنشاء متحف يهودي بتونس فكرة ذكيّة ستساهم في إعادة إحياء ذاكرة المكان وما وراء المكان والزمان. دراسة الفكرة تزامنت مع “حجّة اليهود” ب”الغريبة” سنة 2016 .و”الغريبة” هو كنيس يهودي يقع في جزيرة الأحلام جربة في جنوب شرق تونس. يقع المعبد في قرية صغيرة ,سمّيت فيما مضى “بالحارة الصغيرة” واليوم يطلق عليها “الرياض” القريبة من “حومة السوق” عاصمة الجزيرة. حجّة اليهود إذن هو احتفال ديني عقائدي يقام بجزيرة جربة, وفكرة متحف اليهود الذي بصدد البحث فيه لليوم، كان سيقام في تونس العاصمة في معبد اليهود القائم صرحه بشارع الحريّة تونس المشروع هوبمثابة ضخّ الحياة في جزء من حضارتنا من جسدنا.
وسط ركام انهيار المعابد والكنائس والمتاحف الذي تعيشه خريطة طريق المنطقة بالموصل ودمشق وسائر الوسط جرّاء الثورات المتتالية على كامل المنطقة ,لا يمكن لعقل أن يتقبّل وجود الجوامع عالية الصّرح تؤذّن لحالها, وتعيش مرض التوحّد والغربة وداء الخنّاق وربو الرئة. فغربة المكان والزمان من غربة العباد, إذ لا يمكن أن نعيش حضارة واحدة في نفس المكان ولا يمكن للفكرة أن تلد أفكارا وتحافظ على نسبة خصوبتها في الدّم, دون التزاوج مع حضارات أخرى تكون مختلفة الحسب والنسب…ففي الكاف التي حدّثتكم عنها في العديد من النصوص السابقة, أو هي سيكافيناريا الماضي, يلتقي الجامع بالكنيسة بالمعبد في نفس الشارع –نعم لقد لمحته عن كثب-. وفي حلق الوادي بتونس العاصمة أيضا والعديد من المدن والجزر الأخرى ومنها جزيرة جربة التونسية معقل يهود تونس. هناك تلتقي الحضارات والأديان وكأنّ شيئا لم يكن. يعلو صوت الآذان فجرا يوم الجمعة ويدقّ جرس الكنيسة والمعبد بعد حين . الكلّ يصلي لله الواحد .مسلم يصلّي في اتّجاه القبلة صلواته الخمس, ومسيحي يصلّي في كل الأوقات وبكلّ الاتّجاهات, فالله حسبهم غير مقيّد بوقت ولا بمكان .ويغلب في الابتهال اليهودي الدّعاء على الصلاة شكلا ومضمونا داخل المعبد. .
الحضارة اليهودية جزء من تاريخ تونس, ويهود تونس لا يمكن أن نعتبرهم أقليّة في كلّ الأحوال رغم قلّة عددهم الذي يفوق الألف بعشرات بعد هجرتهم وطنهم الأم تونس لأسباب متعددة. يهود تونس يحملون الجنسية، ويحيّون العلم، ويردّدون نشيد الوطن في المواسم والأعياد. إنّهم “توانسة” من بين الإثني عشرة مليون نسمة عدد سكان تونس – وليسوا بأقليّة. نعم هذا ما أردنا قوله منذ بداية حديثنا عن يهود تونس ولسنا بصدد تبرير وجودهم معنا أنّما فقط بصدد مراجعة درس الحياة والتاريخ الذي يخوننا مع ولادة كلّ جيل. “حماة الحمى يا حماة الحمى هلمّوا هلمّوا لمجد الزمن” . إنّ مجد الأزمان يا سادة يضمن بقاء الحضارات. وتعتبر المتاحف هي الفضاء الحامل على عاتقه زاد الشّعوب والسكّان الأصليّين والمحلّيين والوافدين الغير أصليين للمنطقة. وتعدّ فكرة تأسيس متحف بمعبد اليهود بتونس العاصمة لصاحبها عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات “الحبيب القزدغلي”, فكرة وليدة عصرها ,في زمن موت الإنسان في سوق الخيانة والكره وتحت القصف العشوائي وفي زمن تلاشي التراث والتاريخ والمتاحف والحضارات ودمى المتاحف وألواح الطين وموتها تحت الأنقاض جرّاء القصف.هذا القصف ليس له أصل وفصل, وبطاقة هويّة, هو متعدّد الجنسيات لدرجة الخواء. ”
لنترك موضوع تأسيس المتحف على جنب المعبد يصلّيان ويتّفقان فيما بينهما على مشروع التهيئة, والسّبل الكفيلة لنجاح الفكرة ولنقول مثلا ما شدّنا كزائر لحجّة يهود الغريبة لأوّل مرّة:
على وقع رقصات متحف ومعبد ومسلم ويهودي, تلاشت من مخيّلتي كلّ الحضارات التي درستها في التاريخ وأنا وسط الجموع اليهود والمسلمين وديانات أخرى ربّما, تلاشت وتناثرت منّي وتبعثرت. شربت خطاي,وأكلت بعضا من تخيّلاتي, وعلّقت خيط أفكاري بجسر وعبّارة يمثّلان الخيط الذي يربط جزيرة الأحلام جربة بباقي تونس. هذه الجزيرة الهادئة الغارقة في أحلامها والمحاصرة بالبحر من كلّ جانب, تتحوّل في شهر مايو من كلّ سنة إلى مزار ديني وسياحي ومحطّ أنظار الصحافة العالميّة – إنّه الحجّ اليهودي- بتونس. وتضمّ الجزيرة 11 معبدا يهوديا يتوزعون بين ” الحارة الكبيرة” و”الحارة الصغيرة”، كما توجد أيضا بيوت كتب على جدرانها بالعبرية. نعم في تونس الربيّ يكتب بالعبريّة ويتكلّم بها, ولا يستعمل في معاشه إلّا العربيّة التونسية, حتّى هيكل المعبد وألوان شبابيكه يتّسم بطابع عربي بين الأزرق والأبيض على غرار سيدي بوسعيد. وبين أرض الميعاد (القدس) وأرض قرطاجة (تونس) شاءت الظروف التاريخيّة القاسية والغير عادلة, أن يتشتّت بنو إسرائيل وتبدأ قصّة تلاعب السيّد تاريخ بالزمان والمكان,والأشخاص...
وعند الضفّة تتجسّد أكبرمظلمة من مظالم التاريخ .مظلمة بدأها ملك بابل في القرن 6ق.م عند غزوه لأرض فلسطين وخراب القدس. وأتمّ بقيّة المشوار بنو إسرائيل فقاموا بالواجب زيادة. وكم يظلم تسلسل أفكارنا هذا التاريخ المملّ.
إثر غزوات بابل قدم بعض اليهود إلى جزيرة جربة واستوطنوا في ربوعها. وفي حدود سنة 500ق.م أسّست بيعة اليهود المعروفة اليوم بالغريبة, وتوجد بها لليوم نسخة من أقدم نسخ التوراة في العالم. عند هذه البيعة، يجتمع يهود تونس في أعيادهم. يوم “سقوط أرشليم”يجتمعون فيه، ويوم حجّ الغريبة يحتفلون في فنائه وخارجه، ويوم تخريب الهيكل الثاني يصومون حزنا كما كلّ يهود العالم. عادات وتقاليد وطقوس دينية يهوديّة اندمجت مع ثقافة تونس وعاداتها وتقاليدها وأعيادها فكانت بمثابة زواج كاثوليكي بنكهة مدنيّة وبهار يهودي. ليس جميع من في تونس يعلم هذه الأخبار، لأنّنا نكبر ونتعلّم ونعتبر أجيالا بعد أجيال على نغمة تاريخ وديانة واحدة.
صورة لوسط فناء الغريبة أين تتصدّر
اليهوديات متزيّنات
اللباس التقليدي لجزيرة جربة تلبسه يهوديات
صورة للغريبة من الداخل أين تقام الطقوس
قبل الدخول لهذا المعبد واجب الزيارة يتطلّب خلع الحذاء وتغطية جزء قليل من الرأس وثياب محتشم و إشعال شمعة الأماني. يرتدي الرّجل فوق رأسهّ (الكبّة) وهي قلنسوة سوداء أم بيضاء منحسرة قليلا خلف الرأس مما يلبسه اليهود في طقوسهم وهناك من يلبس الشاشية التونسيّة أيضا اعتزاز بالهويّة .وتجلس اليهوديات يتسامرن قبل وبعد طقوس الزيارة وسط فناء المعبد متزيّنات, جميلات, محترمات. يهود تونس ملتزمون متمسّكون بهويّتهم التونسيّة, ومحافظون على عاداتهم وطقوسهم, هذا ما اكتشفته خلال زيارتي للغريبة يوم حجّتهم . ولم أكن لأفرّق بيني وبين “بنت بلادي” في الدّين لولا حواري مع بعض النساء وأخذ الإذن لألتقط صورة يليها حوار عفوي شائك …نعم شائك لأنّ سؤال شخص عن دينه, وأصله, يمثّل عثرة تواصليّة, يليها إحراج وعدم قدرة على التقرّب لغويّا وإنسانيّا, و هذا النّوع من السؤال هو بمثابة فشل جزئي في مهنة الصحافة وعلوم الإخبار فوجدتني في كلّ مرّة أبتسم بشغف لأنال رضى محدّثي وهو الطرف المقابل الذي يتوسّله حواري بالتفاعل بعفويّة مطلقة مع كمّ الشغف الذي يحاصرني ويحوّط قلمي و أفكاري وبهجتي بلقاء الزيارة. كنت على علم بسذاجة أسئلتي التي أحضرتها في دفتري للقاء الغريبة. سذاجة مفتعلة فرضها حبّ الإطّلاع على ما وراء الخبر, على أشياء خفيّة لا تصلنا إلّا إذا حاولنا الوصول لها, وجميعنا يعلم أنّ التعايش بين يهودي ومسلم, ومسلم ومسيحي على نفس رقعة من الخريطة يعتريه دائما نوعا من الحساسيّة تتراوح بين القبول والرفض وبين التسامح والنفور.
يهوديّات تونسيّات (سنة 2016
إنّ موضوع علاقة الأديان والحضارات ببعضها البعض يعتبر من المواضيع الشائكة بين البشر. سألت فتاة شابة تقف في أبهى حلّة أمام المعبد عن جمالها فردّت دون تفكير “جمال تونسي لم أضف إليه شيء” ثم قالت مبتسمة “أنت أيضا جميلة لا ينقصك منه شيء” .ضربنا الكفّ على الكفّ ودخلنا في حديث شيّق مثير. سألتها عن رأيها في الزواج المختلط بين مسلم ويهودي, – ثمّ ابتسمت متحرّجة- ربّما لأغطّي عن سذاجة السّؤال وفوضى الدفتر الذي بين يديّ …سألتها هل أحببت شابا مسلما يوما ما ؟ بدت عليها علامات حزن خفيف يعتريه غصّة غيّرت قليلا من مزاج مرح فضوليّ بيننا, ثمّ قالت العلاقة بين مسلم ويهودية والعكس لا تزل لليوم علاقة تتّسم بالعنصرية, وإن حدث وأحببنا فعلاقة عابرة ستنتهي بالفراق تفاديا لأي مشاكل في المستقبل . إنّ العادات والتقاليد البالية وقضيّة الموروث الديني واختلاف الأعراق والديانات, من القضايا التي لا تزل تهدّد بقاء الحضارات وعناقها أحببنا أم كرهنا وحده المتحف قادر على التعبئة والقبول بتراث حضارة ما دون ملل وانحياز. إنّ العلاقة بين التونسي المسلم منه و اليهودي تتّسم بالاندماج غالبا والنفور أحيانا أيّها القارئ, ولا يغرنّك التغريد بحسن المعاشرة و صفاء “الربورتاجات”(اللقاءات الصحفيّة) التي تمرّرها الميديا والصحافة للناس .لكن ومع ذلك، نقرّ بأنّ اليهود التونسيين – من الرجال والنساء- يعيشون على قلّتهم بشكل طبيعي في تونس, مع رشّة من العنصريّة المقيتة التي تسكن شظايا اللاشعور عند البعض طبعا .عنصرية ونفور هو في الحقيقة نفور اختياري للأسف كما حدّثتني عنه امرأة تدعى “حبيبة”, والتي أدركت كلامها بعد حين, وقالت مبتسمة “المرأة التونسية سواء كانت يهودية أو مسلمة كلانا نتمتّع بنفس الحقوق والواجبات وعلينا نفس الامتيازات. والقانون التونسي لم يحدّد أيّ قانون بيننا يفصلنا عن بعض فلماذا النفور ؟ .
هذا النفور بين الجيران من وجهة نظر”حبيبة” التونسيّة اليهودية سببه الاختلافات الاديولوجية رغم تقارب العادات والتقاليد بيننا .”حبيبة” امرأة في مقتبل العمر ممتلئة صافية البشرة وعذبة الكلام كانت تجلس في بهو “الكنيس”. تنحنحت على جانبها الأيمن وظلت تكرّر كلمة “نحن كلّنا عرب” بهدوء وابتسامة غير طبيعيين …عن جهل ممزوج بالعفويّة والحب والتسامح كانت تردّد الكلمة “نحن كلّنا عرب”.كلام “حبيبة” أثّر في نفسي, ولم أجد حلّا في رغبتي من تقبيلها على جبينها. رائحة عطرها ذكّرتني بشيء من رغيف أمي سارة . طويت ورقة دفتري وأدركت أنّ كلام “حبيبة” عظيم رغم بساطته, كلام يجعلنا نفهم أنّ الحكمة لا تأتي إلا على لسان البسطاء. هممت بمغادرة المعبد لأنّ طقوس الزيارة خارجه كانت قد بدأت… نادتني “حبيبة” لتحدّثني عن جارتها المسلمة. فعدت إليها بنفس ذات الشغف والمرح والفوضى التي تسكن دفتري وأفكاري وتنّورتي القصيرة المثيرة داخل المعبد . قالت وهي تلعب بإسوارة ذهبيّة في معصمها, جارتي المسلمة تدعى “خديجة” نتعايش منذ سنوات في نفس الحارة,لا نتبادل الزيارة في البيوت لكنّنا نلتقي في السوق يوم الخميس فنتبادل الحديث والحب … قالت إنّ زيارة الجارة اليهودية لجارتها المسلمة لا يزل رهين خلفيّات هشّة متوارثة وبعض الأحكام المسبقة. فتقول أنّه لا يمكن لليهودي أن يأكل ممّا طبخه جاره التونسي أحيانا وليس دوما ,لأنّه “حرام في معتقدهم” … وأكثر شيء يؤثّر فينا, منطق بعض الجيران في حال حدوث شجار بين الأطفال وهم يلعبون. لفظ يسيء لإحساس بعض اليهوديات لدرجة العزلة والنفور الاختياري من الجيرة كأن لا يتفوّه البعض بكلمة يهودي إلّا ويسبقها بكلمة “حاشاك” وهي ما يعادلها بشكل آخر كلمة “أعوذ بالله ”.
إنّ كشف الجوانب الغير مطروحة في حياة اليهود بتونس رغم تعايشنا السّلمي الغير محفوف بمشاكل أخلاقية واجتماعية,كان هدفنا من الربورتاج والحوار الصحفي الذي أردت أن أدوّنه بصدق دون نقصان أو زيادة يوم حج الغريبة, فمن طباع القلم الساكن في أحشائي الصدق في التعبير والإثارة والشغف والمتعة وقت التدوين. فكلّ شيء نابع من الواقع باستطاعة حاسّة الشمّ والسمع والذوق التي أملك أن تدركه بكلّ سهولة. واقع لا أتردّد في كتابته متى طلب منّا القلم وأمرنا لذلك حبّ التدوين. ولعلّ أحسن التدوين والكتابة ما كان صادقا دون تلوين وتزويق في الكلمة. فكم من تاريخ كتب ملفّقا متوّجا بأسمى العبارات والمعاني وباطنه أعمدة هشّة مهدّدة بالسقوط متى حرّكتها رياح الخريف مع نسمة ربيع عربي معاصرة …إنّ الصّراع والصدام الحضاري عامّة (ولا أقصد به يهود تونس) القائم بين الطّائفتين اليهودية والمسلمة, سببه الرّئيسي منذ التاريخ هو الصلف والعدوان الإسرائيلي في فلسطين المحتلّة مسقط رأس عيسى الذي قال “بوركت الأرض التي أنا عليها ” ولم نرى بركة تنزل على القدس منذ ذلك الحين لحدّ الساعة … ويعتبر يوم حجّ الغريبة يوم بركة عظيم بركة يطلبها الزوّار من الحاخامات بدعائه لهم بالمغفرة والصلح والرّشاد من خلال قراءته للتلمود والتوراة والتلّيم .وتمتدّ الاحتفالات عادة على مدى ستّة أيام تقام فيها الطقوس حيث يفتتحون الحج باحتفال صغير احتفاء بال “ربّ مير” وهو أحد الكهنة اليهود الذي له شأن منذ القديم, ويختمونها بحفل كبير يسمّى بيوم “الخرجة” وفيه أيضا تكريم “للرب شمعون” وهو أحد الكهنة الكبار المعاصرين. .
بين اليوم الأوّل واليوم الأخير لزيارة الغريبة, تقام الصلوات داخل المعبد وتتواصل على امتداد الحجّة قراءة ثلاثة كتب يهودية “التلمود والتوراة والتلّيم” .وجرت العادة أن يقرأ الربّ أجزاء من الكتاب المقدّس أمام قنينات من نبيذ “البوخة” (وهو شراب مخمّر يستخرج من فاكهة التين يشتهر به يهود تونس دون سواهم) و شيء من الفاكهة, ثمّ يقع توزيع هذه البوخة والفاكهة على الزوّار للبركة ولما فيها من شفاء .إضافة إلى بركة الحاخام وشراب البوخة المقدّس وتقديم الخرفان قرابين نجد اليهود وخاصة النساء منهم يعلّقون أمنياتهم الشخصيّة في بيضة يكتبون على قشرتها أماني الحياة من زواج ورغبة في الإنجاب والسعادة الأبدية ويضعنها قرب الحجر المقدّس .وتقول الأسطورة أن الحجر المقدّس هو حجرة كبيرة من أرض غريبة وقع جلبها وتركيزها كحجر الأساس في المعبد منذ آلاف السنين, واسم “الغريبة” هو كنية لهذا الحجر المقدّس الذي يقال أن مصدره الأرض المقدّسة من فلسطين .وتبقى الأساطير مجرّد تخمينات يدوّنها التاريخ وما من شاهد حيّ يروي لنا يقيّة التفاصيل .قرب هذه الحجرة المقدّسة يتكدّس البيض وداخل صفاره وبياضه تعلّق الأماني في انتظار كلمة سيّد الخلق . من البيضة إلى “خرجة المنارة” وهي من الطقوس المشهورة أيضا في حجّ اليهود , خرجة تقليدية بدأت منذ 160 عاما تقريبا.
.
خرجة المنارة
"خرجة المنارة" يا سادة هي في الأصل عبارة عن عربة محمّلة بقلال فارغة تجوب مختلف دروب الحارة التابعة للمعبد يقوم المتساكنون بملئها زيتا لإنارة القناديل المعلّقة بالمعبد، والتبرّع بالمال لتغطية نفقات تشييد المعبد. اليوم تغيّر شكل العربة ولم تتغيّر الخرجة وعوض القلال الفارغة نجد آنية كبيرة من النحاس ذات ثمانية أضلاع موشّحة بأقمشة ملوّنة وأكاليل الزهور تجوب فقط حدود ال
فضاء المحاذي للمعبد بسبب مخاوف أمنية بعد التفجير الإرهابي الذي عاشته الغريبة في ابريل من سنة2002…هذه الآنية تباع في المزاد العلني وتودع مداخيلها لفائدة الكنيس أيضا. ويبقى السؤال العالق لليوم هل سيصدق خبر تأسيس متحف يهودي بتونس؟ .
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا