كانت تونس منذ فترة حكم الرييس الراحل الباجي قايد السبسي حريصة على حل المازق الليبي بالطرق الديبلوماسية و من المعلوم ايضا انه كان مساندا للثورة الليبية منذ البداية ضد حكم العقيد الراحل معمر القذافي الذي اطاح به حلف الناتو سنة 2011.
و مع اعتلاء الرييس قيس سعيد الى سدة الحكم في تونس سنة 2019، تحركت الديبلوماسية التونسية من جديد بزخم اكبر مدعومة من الشقيقة الجزاير، حيث زارت وفود عديدة ليبية بلادنا من حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج او من بقية مكونات الطيف السياسي الليبي الذي كان معارضا.
و مثلما كان يقول وزير الخارجية الراحل وليد المعلم ان " الاعلام موازي للسياسة " فمن الطبيعي ان يكون جزء من الاعلام التونسي يتبنى اجندة الاسلام السياسي و الجزء الاخر يقف الى جانب المشير خليفة حفتر و الذي خاض معارك حامية الوطيس من اجل اخضاع العاصمة طرابلس تحت سيطرته و لكنه فشل فشلا ذريعا بفضل التدخل التركي و دعمه لحكومة الوفاق المعترف بها دوليا.
و قد تواصل ذلك العمل الدبلوماسي و مد يد العون للفرقاء الليبيين قبل انعقاد الحوار الوطني الاخير خلال الاسبوع الاول من شهر نوفمبر، حيث استقبل رييس الجمهورية الحالي في الثاني عشر من شهر اكتوبر، رييسة بعثة الامم المتحدة لدعم بالنيابة في ليبيا السيدة ستيفاني وليامز و خصص اللقاء للاعداد لاحتضان تونس للاجتماع المباشر الاول لملتقى الحوار السياسي الليبي الذي كان مبرمجا له خلال شهر نوفمبر
. و قد اعرب رييس الدولة عن ارتياحه لبعض العقبات التي تم اجتيازها و التي اوصلت الى هذه المحطة السياسية الهامة التي ستتوج بلقاء بين كل الفرقاء الليبيين بهدف استيناف العملية السياسية التي سبقتها خطوات للمصالحة و الحوار في بوزنيقة المغربية خلال الشهر الذي سبقه ومن قبلها في جنيف. و قد ابدى الاستاذ قيس سعيد استعداد تونس لتقديم كل الدعم و الموارد المادية و البشرية من اجل انجاح هذا الاستحقاق الهام.
الصحافة التونسية ولقاء الفرقاء
و قد اهتمت كبريات الصحف الوطنية بالملف الليبي طيلة فترة اجتضان تونس لملتقى الحوار الليبي . فقد عنونت يومية الشروق في 15 نوفمبر بالقول : في البدا ...ما بعد الحوار الليبي في تونس؟ و قد كتب ناجح بن جدو : " ما من شك ان نتايج المفاوضات التي توصل اليها الفرقاء الليبيون خلال الملتقى السياسي الذي احتضنته بلادنا باشراف الامم المتحدة ستكون ركيزة اساسية لارساء سلام حقيقيفي ليبيا بعد سنوات من اقتتال الميليشيات المدعومة من القوى الاجنبية و الاقليمية و الذي تبين بالكاشف انها ترى في ليبيا مجرد كعكة يجب اقتسامها الا ان هذه المفاوضات فشلت في التوصل الى توافقات لتشكيل حكومة جديدة و مجلس رياسي لقيادة المرحلة المقبلة في ليبيا التي على وقع انقسام حاد. و يرجع متابعون للشان الليبي هذا الاخفاق الى اختلافات عميقة حول اسماء المرشحين و اليات اختيارهم و مسايل اخرى جوهرية علما بانه علقت امال كبيرة على قمة تونس.
من ناحيتها عنونت جريدة المغرب اليومية كالتالي : في افتتاح ملتقى الحوار السياسي بتونس:
تونس تدعو لانهاء الحرب و الاحتكام الى صوت العقل
الامم المتحدة : ضرورة الانتقال من المرحلةالانتقالية الى مرحلة اليقين.
و تعد محطة تونس هذه " لحظة تاريخية" في سياق البحث عن حل سياسي ليبي- ليبي لانهاء سنوات من الحرب عبر تجاوز صوت الرصاص، حسبما صرح بذلك رييس الجمهورية، مؤكدا ان دعمه للاشقاء الليبيين هو غير مشروط. و من ناحيتها قالت الممثلة الخاصة للامين العام للامم المتحدة وليامز ان " الامم المتحدة تدرس خطواتها جيدا بخصوص الشان الليبي و هي مستندة في ذلك على عزيمة الليبيين سواء من فرقاء سياسيين او من مختلف مكونات المشهد الليبي من اجل بناء " ليبيا جديدة ".
اما جريدة الصباح الاسبوعي، فقد كشف الصحفي المعروف رشيد خشانة على التالي: " السلم و الاستقرار في ليبيا مصلحة قومية تونسية " . و اكد في ذات السياق على ان الجميع يؤملون في وضع القطار الليبي على سكة السلم الاهلي و الامن و الاستقرار، لان انهاء عشر سنوات من الحرب الاهلية ليس مطلبا ليبيا فقط و انما هو مصلحة قومية لدول الجوار ايضا، و خاصة تونس، التي كانت ليبيا زبونها الاول قبل اندلاع الصراع الداخلي المدعوم من الخارج.
و يواصل قايلا : " انه اذا سارت الامور في الاتجاه المرسوم فثمة عدة مسارات : عمليا، يعني ذلك تسمية رييس جديد للمجلس الرياسي و رييس جديد للحكومة و وضع رزنامة لانتخابات عامة رياسية و تشريعية و قررت الامم المتحدة بعد لقاءات اخرى اجريت في ليبيا بالتوازي مع ما جرى في تونس، ان موعدها سيكون في اوخر شهر ديسمبر سنة 2021، اي ان الاطار الزمني للحوار السياسي الشامل سيكون 18 شهرا. و سيتكون المجلس الرياسي في المستقبل من ثلاثة اعضاء بدلا من تسعة حاليا، بالاضافة لاختيار رييس المجلس بعدما كان السراج يجمع بين رياسة الحكومة و المجلس الرياسي.
> > > > > > > > > و بحسب الكاتب نفسه، و نقلا عن ملاحظين و متابعين للشيء الليبي، فثمة ماخذ على الخطة الاممية التي هندست حوارات تونس، منها انتقاء المشاركين اظهر ميلان الكفة لصالح التيار الديني، الذي قدر بعض العارفين حجمه ب47 مشاركا من اصل 75، مما جعل تيارات و فيات اخرى، بينها نشطاء من المجتمع المدني و نقابات يحتجون على تغييبهم . و يعزى غياب التوازن الى ان البعثة الاممية انتقت اسماء المشاركين اساسا من بين اعضاء مجلس النواب و مجلس الدولة الذين يعتبران هيكلين منتهيا الصلاحية منذ سنوات.
التشكيك في تمثيلية الوفد من قبل اكادميين ليبيين
و قد استغرب اكاديميون ليبيون من تهميش هذة الفية و عدم تشريكها بالرغم من قدرتها على اقتراح حلول لكثير من المسايل القانونية و الاقتصادية و السياسية المطروحة على جدول الاعمال في تونس.
و تعزو الخبيرة فيرجيني كولومبيي، الباحثة في المعهد الجامعي الاوروبي في فلورنسا، تلك الفجوة بين السباسيين و الشارع و التي تجلت في مظاهرات الاحتجاج على فساد الحكام في الشرق كما في الغرب، و انشغالهم بلعبة السلطة في مقابل تجاهلهم للمطالب اليومية الحياتية للمواطن كلانقطاعات المتكررة للماء و الكهرباء و شح السيولة في المصارف و انتشار اكوام القمامة في المدن. و كن الاسماء الاكثر ترجيحا لتولي المنصبين الاكثر اهمية في البلاد و هما رييس مجلس النواب عقيلة صالح عيسى المرشح للحلول محل السراج في رياسة المجلس الرياسي، و وزير الداخلية الحالي فتحي باشا المرشح لتولي رياسة حكومة الوفاق خلفا للسراج ايضا. و هو نتيجة لمسار امتد لثلاث دورات من الاجتماعات في بوزنيقة المغربية بين 13 ممثلا لكل كن وفد مجلس النواب و 13 للمجلس الاعلى للدولة بين شهري سبتمبر و اكتوبر و اوايل نوفمبر . و قد لعب المغاربة دورا هاما في ترتيب الاجواء و تقريب وجهات النظر بغية تبني الصيغة المعروضة لتقاسم السلطة السياسية. هذا و ينعقد خلال يومي 2 و 3 ديسمبر الجاري، عبر شبكة الانترنيت الملتقى السياسي الليبي من اجل تعميق النقاش حول مخرجات و تفاهمات اللقاءات السابقة و الى حد كتابة المقال لا تزال التحركات السياسية على اعلى مستوى تسير بنسق حثيث تقودها السيدة ستيفاني وليامز . فالمسالة الليبية تحظى اليوم باهتمام دولي واسع و يتطلع الليبيون و المجتمع الدولي الى رؤية ليبيا جديدة امنة و مستقرة و مزدهرة.
خصوصية المجتمع الليبي هل تكون عائقا؟
و قد اعتمدت في دراستي لخصوصية المجتمع الليبي على دراستين علميتين: الاولى لاكاديمي ليبي هو الاستاذ " احمد خالد صالح القطراني " رييس قسم الاذاعة و التلفزيون بكلية الاعلام و الاتصال بجامعة اجدابيا و المرجع الثاني و الاهم في اعتقادي هو الاكاديمي البارز و الباحث في علم الاجتماع الدكتور " المنصف وناس ". و البحثان يشكلان وثيقتين تاريخيتين على غاية من الاهمية تركرزان كلاهما على مفهوم " القبيلة " كمفتاح رييسي و مدخل اساسي لفهم البنية الاجتماعية و النفسية و السياسية و الثقافية لسبر اغوار المجتمع الليبي و يعود الفضل في ظهور مفهوم " العصبية القبلية " الى العلامة عبد الرحمان بن خلدون و هو العمود الفقري لمقالتنا هذه.
في مطلع بحثه المعنون : " اهمية وسايل الاعلام في التصدي لظاهرة التعصب القبلي و مجالس الاحكام العرفية في المجتمع الليبي " يؤكدالدكتور القطراني على ان القبيلة هي العصب الحقيقي و الاول في تكوين المجتمع الليببي، ذلك ان ظاهرة التعدي على القانون في المجتمع الليبي متجذرة فيه منذ اكثر من نصف قرن و قد ادى ذلك الى انتشار الفوضى و الجريمة و قد اصبحت لجان المصالحة الاجتماعية او ما يعرف ب " المسار " في العرف الليبي، هي الفيصل في حل الخصومات و الجرايم كجرايم القتل، بدل اللجوء الى القضاء كمؤسسة قانونية مما يدل على ان ليبيا في نظام القبيلة ليست دولة مؤسسات و ليس لها هيكل قضاءي بالمعنى الحديث للكلمة و المتعارف عليه في ساير انحاء العالم. و انما دليل واضح على بداوة و تخلف المجتمع الليبي في اطار هذا النظام . و قد ذهب المفكر الاقتصادي " فبلن " veblen مبتكر نظرية ( تكنولوجيا التحضر ) ان تخلف المجتمعات يكمن في سيطرة الفيات الاجتماعية غير المتعلمة و المؤهلة من خلال سيطرة القبيلة او العشيرة على مقاليد الامور و فرض هيمنتها على مختلف الدواير و المؤسسات الاقتصادية داخل الدولة.
هل يمكن التخلص بسهولة من نظام القبيلة ؟
و يواصل الباحث حديثه عن الخصوصية الليبية كون الانظمة الثقافية الريفية تفرض على سكان المدن الليبية، ة ذبك لعدم وجود حدود ادارية واضحة المعالم مما جعل من العسير تصنيف سكان المدن عن الارياف في ليبيا، و ذلك بسبب النزوح و الهجرة من الارياف الى المدن، و هذه الهجرة تسببت في خلق مشكلات عديدة قد يصعب على المسؤولين حلها. اذ كثيرا ما تتحول النظم التلقايية التي تمثل مجموع العادات و التقاليد و الاعراف من وجهة نظر علماء الاجتماع الى نظم مقننة، و النظم المقننة هذه هي قواعد تنظم السلوك البشري في مواقف معينة و لكنها محكمة و مضبوطة و مخطط لها مسبقا موضوعة على اسس و تشريعات مختلفة، فالتشريعات المستمدة من الاعراف و العادات و التقاليد قد تصير قانونا ذلك ان مجالس الصلح بين القبايل في المجتمعات الريفية و البدوية ظهرت كنظم عفوية و تلقايية لاحلال الصلح بين ابناء القبيلة الواحدة. و رغم تنامي ظاهرة التحضر و ظهور المدن المليونية ( مليون نسمة او اكثر )، الا ان ذلك يعني وجود التجمعات العشوايية و افتقادها الى النظم الحضارية المتسمة بالتنظم الاجتماعي و انتشار الثقافة و الوعي بين قاطنيها. هذا و ثد ظل سكان مدن طبرق و البيضاء و سلوف و سرت و غيرها من المدن التي نمت على هياة طفرة اقرب ثقافيا الى سكان الارياف او البادية و لم تتكيف بعد مع الانماط و الاساليب المعماريو الحضارية حيث تعرف في الدراسات الاجتماعية باسم " المدن البدوية ".
الثروة النفطيه لليبيا وبناء الحلم؟
و قد لعبت الثروة النفطية دورا بارزا في حدوث اتتعاش اقتصادي خصوصا بعد ارتفاع سعره مع مطلع السبعينات من القرن الماضي، مما جعل المدن محط انظار الريفيين و البدو ليهاجروا باعداد كبيرة لتحسين اوضاعهم، ة بالتالي فان النازحين من الارياف الى المدن يفرضون ثقافتهم اذا ما تجاوزت نسبتهم نسبة سكان المدن التي نزحوا اليها. و قد تضررت معظم المدن الليبية و تاثر عمرانها بسبب النزاع المسلح الذي اطاح بمعمر القذافي ثم الصراع الداني بين جيش حكومة طرابلس و جيش حفتر و الذي اغلبه من مرتزقة جاؤوا من خارج الحدود، و بالتالي فان ليبيا في حاجة اكيدة و ماسة الى اعادة اعمار و بناء و تشييد المرافق الحيوية خصوصا في زل الحديث عن عاصمة جديدة غير طرابلس العاصمة في الةقت الحاضر. و بحسب الكاتب فان لوسايل الاعلام المختلفة دورا كبيرا في التصدي للظاهرة بكل الطرق للقضاء على السلوك المنافي للقانون و الذي يحد و لا شك في ذلك من تقدم و تطور المجتمعات.
ان التوزيع السكاني في ليبيا او لوبيا و هي لفظة تشير الى مجموعة من القبايل التي كانت تقطن منطقة غربي نهر النيل، يظهر تشتتا بسبب تمركز السكان في مناطق دون غيرها و ضعيفا في مناطق اخرى. و تتميز الجماهيرية الليبية ( سابقا ) ، بشؤيط ساحلي طوله 2500 كيلومتر، حيث يعيش اكثر من 60 في الماية من سكان البلاد في المناطق الساحلية ، و يتوزع البقية في المناطق الجبلية و الواحات الداخلية و هذا امر اوجدته الظروف الطبيعية و يعادل سكان ليبيا 9 في الماية من اجمالي سكان العالم. و تصل الكثافة السكانية في ليبيا الى اربعة اشخاص لكل كيلومتر مربع، و يبلغ حوالي 80،7 في الماية من السكان في المناطق الحضرية، و يشكل العرب 92 في الماية من اجمالي السكان في ليبيا بينما يبلغ الامازيغ ( البربر) حوالي 5 في الماية، فيما تشمل ال3 في الماية الباقية من اليونانيين و المالطيين و الايطاليين و الباكستانيين و الاتراك و الهنود. و اشير الى انه لا توجد احصاييات و ارقام و ارقام جديدة بهذا الخصوص و من المؤكد انها قد تغيرت تحت تاثير الحرب التي دارت رحاها في البلاد. و رغم انشاء اول نظام للقضاء في ليبيا في عام 1951، اصبحت المحاكم الليبية شاملة للمسايل المدنية و الجنايية و الاحوال الشخصية على حد سواء، و تم تعديل هذا النظام في 18 اكتوبر 1958، فصلت فيه المحاكم الشرعية عن المحاكم المدنية، لكن مايزال للقبيلة دور اجتماعي مهم في ليليا بل في حياة المجتمع الليبي قاطبة عكس دورها الاقتصادي و السياسي الذي بدا يضعف خاصة في السنوات الاولى للانقلاب العسكري الذي قاده العقيد معمر القذافي و هو ما كان يعرف بثورة الفاتح من ثورة سبتمبر سنة 1969، و الذي شكل في راي الكاتب البداية الفعلية للهيمنة السياسية و القمع، الا ان دور القبيلة لم يتراجع الى يومنا هذا في حل النزاعات التي تنشا نتيجة للخصام او لحوادث القتل التي تحصل بين اشخاص ينتمون لتلك القبايل و في احيان كثيرة تاخذ المحاكم الرسمية بوجهة نظر قضاة القبيلة المعروف على المستوى في المدن ب " لجان المصالحة ". و يرشدنا صاحب البحث العلمي الى ان القبيلة قد تكونت في الاساس لتقديم الحماية لافرادها،خلال الحقبات التاريخية السابقة التي عجزت فيها السلطة الحاكمة عن السيطرة عليهم او حمايتهم في ظل تلك الظروف ، مما ادى بالافراد الى الاتحاد فيما بينهم لحماية مصالحهم و هو التنظيم الذي عرف باسم الفبيلة. و يبدي الاكاديمي بكلية الاعلام باجدابيا خشيته من ان تتحول القبيلة الى ما يشبه الحزب السياسي و يرى ان ذلك سيقود الى صراعات لا نهاية لها. و في الحقيقة يلعب حاليا رؤساء القبايل و العشاير دورا في ليبيا الجديدة، ليبيا ما بعد اللجان الثورية و الكتاب الاخضر.
كيف نظر الباحث المنصف وناس الى تركيبة المجتمع الليبي؟
ياخذنا الكاتب الكبير و الباحث المتميز في علم الاجتماع و ريييس السابق لمركز للبحوث الاقتصادية و الاجتماعية بتونس و الذي غادرنا خلال شهر نوفمبر من السنة الحالية، و الاشقاء الليبيون يتحاورون على ارض تونس فيما يخص واقعهم و مستقبل بلادهم السياسي و الامني و الاقتصادي ، المنصف وناس في رحلة علمية عميقة و طويلة عمرها 26 سنة، سبر فيها اغوار المجتمع الليبي بكل تفاصيله و جزيياته و تعقيداته من خلال مؤلفه المعروف و الذي حمل عنوان : " ليبيا التي رايت، ليبيا التي ارى : محنة بلد الصادر عن الدار التونسية للنشر سنة 2017 في 371 صفحة. و الكتاب اوجزه لنا الاكاديمي الجزايري بلعيد بن جبار في المجلة الجزايرية للانتروبولوجيا و العلوم الاجتماعية هو حصيلة و ملخص لابرز النتايج التي توصل اليها الاستاذ المنصف وناس الذي يعد بمثابة " شاهد على العصر " في ليبيا، اظهر فيه الكاتب امكانيات معرفية و فكرية على استنطاق الواقع الليبي و تشخيص الاوضاع بدقة و بكل موضوعية بعد عقدين و نيف من الدراسة، و تحتوي على فصلين :
الفصل الاول يعرض فيه تجربته في البحث و الاستقصاء و اكتشاف جذور الازمة و الاخفاق و العنف صلب المجتمع الليبي، اما الثاني فيتناول المدنية الليبية الجديدة بكل شروطها و مراحلها .
يقيم الاستاذ المنصف وناس في الفصل الاول تجربة حكم عمرت 42 سنة اي من 1969 الى 2011 و الى الان، حيث يؤكد على انه لم يحصل تحديث فعلي للمجتمع، و لم تبن دولة قوية تكون قادرة على صهر البنى الاجتماعية الاولية و دمجها، و في مقدمتها القبيلة و العشيرة لابرز قوانين المجتمع الليبي التقليدي، مثلما ان " الذهب الاسود " لم يقد الى تفكيك المجتمع القديم، خاصة المجتمع القبلي، بل على النقيض من ذلك، فقد استعملت السلطات المختلفة بما فيها الملكية قبل عام 1969 ثم ما ما بعدها اي سلطات القذافي و اركان حكمه، القبايل و العشاير في عملية انتاج السلطة على مستوى الجغرافيا، جغرافيا شاسعة تتمتع بها جماهيرية القذافي ( سابقا )، فهي امبراطورية صحراوية بنسبة 96-97 في الماية و ان الشريط الساحلي ينطلق من الحدود المصرية من مرسي مطروح الى غاية بن غردان لا يمثل من الجغرافيا الليبية سوى 2 او 3 في الماية و ان ليبيا مستغلة بنسبة 5 في الماية فقط و 95 في الماية متروكة بدون استغلال، و ان اقليم فزان في الجنوب الليبي يمثل اربع مرات مساحة فرنسا، و هو يعتبر بمثابة امبراطورية صحراوية مترامية الاطراف، فهي اقليم صحراوي بنسبة 98 في الماية به بعض المدن القليلة مثل سبها، ام الارانب و بلداك، و تصل الى غاية الحدود التشادية النيجيرية و غرب السودان، و هي صحراء قاسية، و يتطلب اجتياز فزان يومين او اكثر .و قد كان للجغرافيا في ليبيا عبر مختلف الحقبات التاريخية تاثير على نظام الحكم، فقد اكتشف الباحث ان صعوبة الخغرافيا و وعورتها، لم تترك لاي نظام اتى القدرة على حكم هذه الجغرافيا؛ فقد حكم العثمانيون 236 سنة، و سيطروا على مدينتين كبيرتين هما طرابلس و بنغازي و حكم الملك 17 سنة. و على الرغم من سطوته الدينية و احتمائه بالجمعية الصوفية السنوسية، و على الرغم من البترول، حكم جزءا بسيطا من ليبيا و ابقى على السلطة الفعلية
ليبيا بعد ثورة الفاتح من سبتمبر
في التخوم الليبية في الوسط الليبي في الجنوب لدى شيوخ القبايل و وجهاء المناطق و قادة العشاير.
> > بعد الحكم العسكري سنة 1969، كان لا بد من ايحاد حل تمثل حينها في البترول، و هذه مشكلة اخرى عويصة صنعت المشكلة الثانية، كون من يقترب من يستفد من البترول، و من يبتعد لا يستفد اذا لم تبن مواطنة و لا ولاء للدولة و المجتمع، و لا نخب محلية تساعد على ادارة الحكم و السيطرة على الجغرافيا الليبية مترامية الاطراف، ذات المساحة الجغرافية غير العادية: حوالي 1760000كلم مربع منها 2000كلم حدود بحرية اي ساحل. و يقول الليبيون ان الثروات البحرية و السمكية التي لم تستغل الى حد الان قادرة على ان تضمن عيشا كريما لليبين بغض النظر عن البترول. المشكلة الثانية، هو الاعتماد على القبايل و تقريبها من السلطة نظرا الى المساحة الجغرافية الشاسعة للبلاد و ادماجها في الاستفادة من خيرات البترول الوفيرة. و لكن ايضا مع استعمال العنف، تستعمل السلطة العنف السياسي بتفويض القبايل في متاطق لاستعماله لهذا حصلت حالات من الاقصاء، من التشظي المجتمعي و من التقرب او الابتعاد، مع تحمل الليبيين اختيار احدهما، و هو ذو كلفة اجتماعية و قبلية و سياسية و حتى امنية.
ارادة العيش المشترك الليبي؟
> الفصل الثاني ركز فيه الكاتب على ما سماه " ارادة العيش المشترك الليبي "، او مدنية ليبية جديدة تساعد على تنظيم العيش المشترك؛ فبغض النظر عن قراءة ما حصل في فبراير 2011، و بغض النظر عن المواقف الفكرية و حتى الايديولوجية، و عن الموافقة او الرفض، فان فبراير 2011 اعلن عن موت العيش المشترك الليبي، ضعفه و وهنه، و اعلن رفض الليبيين لحق التمايز بعضهم عن البعض، و لهذا اشتغل المؤلف على مسالة التمايز في المجتمع الليبي و كيفية بناءه، بناء عقد اجتماعي و اخلاقي جديد يقي من العنف المسلح و تصفية الاخر الذي يختلف فكريا او سياسيا.
> و قد استنتج الباحث خﻹل عقدين و نيف من الملاحظة الانتروبولوجية، ان المشكلة العميقة تكمن في لا عدالة توزيع الثروات الليبية؛ فقد يتغاضى الليبي عن الانغلاق السياسي، لكنه لا يتغاضى البتة عن سوء توزيع الموارد البترولية و الطاقية، و لا يتسامح ازاء تقسيم المجتمع الى فيتين كبيرتين: فية اهل النفوذ و فية " راقدين ريح"، معناه لا قبيلة و لا اموال و لا علاقات و لا نفوذ و لا حتى اي شيء. هكذا انقسم المجتمع الليبي خلال 66 سنة من تاريخ الاستقلال 24/12/1951 الى سنة 2017، هناك من هو قريب و هناك من هو بعيد او مستبعد.
و يقول الباحث الى ان الازمة العميقة التي انتجت كل هذاوالفشل و الاخفاق يعود الى مجموعة المكونات الاساسية التي سيطرت على كل دواليب الحكم من عسكريين امسكوا بملفات الامن و المخابرات و نظموا الحياة الاجتماعية و السياسية و تكنوقراط شاركوا في اعداد اللجنة الشعبية العامة و مؤتمر الشعب العام و كانوا مجرد ادوات تنفيذ خطة النظام من 1969والى 1977. لكن مجموعة من التكنوقراط من بينهم خبير التخطيط الاستراتيجي محمود جبريل الذي توفي بفيروس كورونا في مصر هم من انقلبوا على النظام في ثورة 2011.
> و ثمة العامل القبلي، فاغلب شيوخ القبايل من الوسط الليبي، اي من بن غردان الى غاية الحدود الليبية التشادية النيجيرية السودانية المشتركة، شاركوا في اعادة انتاج النظام غير منبهين الى اخطاءه. و العامل الاخير، وهو ان اغلب هذه المجموعات حملت السلاح و تحالفت مع قوى خارجية عديدة و شاركت في العنف.
ليبيا على طريق العنف بعد الاطاحة بالقذافي
و من المهم جدا الاشارة الى ان عالم الاجتماع المنصف وناس قد لقي في رحلة البحث الطويلة و المضنية و المهمة عراقيل عديدة منها ان اللجان كانت تراقب و تحاكم و تسجن. و الغريب انه بعد سنة 2011 وجدت مجموعات متشددة تمنع الدراسة الميدانية. فقد زار المؤلف غرب ليبيا في سنة 2012 لحماية قبيلة معروفة تقع في اقليم الزنتان الا انه لم يتمكن من ممارسة البحث.
> اهمية دراسة الاستاذ الدكتور المنصف وناس ، بودي لو نجد دراسات مماثلة لها اليوم في تونس، لتغوص في اسباب العنف المجتمعي الذي استفحل في بلادنا بشكل كبير و واسع : اليوم و منذ سنوات نشهد عنفا بين مكونات الطبقة السياسية البرلمانية، في 07/12/2020 عراك و سب و شتم و تبادل للعنف المادي بين كتلتين نيابيتين بسبب تعارض للمصالح و منذ اشهر و وسايل الاعلام المختلفة و منظمات المجتمع المدني تندد بخطاب العنف و كان يمكن لرجال الدين من ايمو و وعاظ و خطباء ان يتدخلوا لايقاف نزيف العنف الذي يكاد ينسف بالعيش المشترك الذي لطالما دعا اليه نخبة من المفكرين و من المصلحين في تونس لعلي اذكر واحدا هو الفيلسوف فتحي التريكي مثلما يراه المفكر الاسلامي ابو يعرب المرزوقي في مقال صدر له في موقع "تدوينات " يرى ان ما يحدث في تونس هو صراع بين " الاخيار و الاشرار ". و لعل هذا المشهد قد يخيف البعض من الشعوب و من ضمنها اللبيين الذي يرون في الديمقراطية التونسية الفتية نموذجا يحتذى به. من جهته يرى الكاتب و المحلل صلاح الدين الجورشي ان المشهد التونسي " " محزن جدا و لا بد من الحوار" الذي يظل الحل الاوحد و الامثل في ظل انسداد الحلول بخصوص الوضع المالي و تواصل الاضرابات في اكثر من قطاع حيوي ( القضاة، الاطباء، الصحفيين ، المهندسون و القيمون ) . و هنا اتساءل الى متى سيتواصل هذا العداء بين العلمانيين و الاسلاميين ؟!و من هو الاجدر بحكم تونس ؟! و ما فايدة دستور ينص على ان تونس دولة مدنية دينها الاسلام و على ضرورة العيش المشترك و نبذ كل النعرات ؟! و لماذا يساء فهم حرية ابداء الراي و التعبير و المعتقد؟!!
في خاتمة هذا المقال المفصل الذي استعرضت فيه جذور و واقع الازمة بمختلف ابعادها وتشعباتها في ليبيا الجديدة، ارى من الضرورة بمكان استشراف الحالة الراهنة بناء على معطيات مستقاة من نظريات معاصرة في علم الاجتماع للاستاذ الدكتور الاردني معن خليل عمر حيث اعتقد و ان افكاره قابلة للتطبيق على البيية الليبية، ذلك ان المجتمع الليبي في حاجة الى فكر متقدم و متطور بناء و الى ثورة في انماط التفكير داخل النسق و خارجه ذلك ان المجتمع تتحكم فيه قوى الدفع و الجذب و هي غالبا ما تكون مبنية على تبادل المصالح و المنافع المادية او المعنوية او الاثنين معا او وجود تاريخ اقتصادي او سياسي او ثقافي مشترك و الا تكون علاقة هناك علاقة بينهما. و قانون الدفع و الجذب ما هو سوى قانون ميكانيكي مستعار من الفيزياء المادية تم توظيفه في تفسير علاقة الافراد و المجتمعات فيما بينها و ليس قانونا اجتماعيا نابعا من صلب الحياة الاجتماعية، اي مقياسا ماديا لحالة معنوية-اجتماعية ( لا اجد ضيرا من هذه الاستعارة القياسية في بداية تاسيس المقياس و حرية الاختيار الفردي. اذ كان طموح نظرية النسق في الاساس هو توليد نظرية اجتماعية ذات منهجية فيزيايية و ذلك لما تتمتع به الفيزياء من عمق علمي في القياسات و التجارب و النظريات سبقت العلوم الانسانية في هذا الضرب العلمي.
من مجتمع الرخاء الى مجتمع الاضطراب
و من نافلة القول ان عملية الاقتباس و الاستعارة و التشبيه عند منظري النسق الاجتماعي ذهبت الى الاستعانة بمقياس " التوازن " اي تكافؤ القوى داخل المادة فشبهوا العلاقات بين النفوذ و السلطة في المؤسسات و التنظيمات بمعايير التوازن التي توضح معيارية العناصر و القوى لكي يفسروا و يحللوا الاستقرار ( الستاتيك ) الاجتماعي و حالات السلام و الرخاء و الرفاهية، ثم عدوا التوترات و الاضطرابات و النزاعات و الارتطامات و الصراعات و الثورات ما هي سوى حالات لا تمثل التوازن الاجتماعي بل عدمه او نقيضه.
> > > > > و ان العمل المنظم و التعاون الاجتماعي يساعد على تطوير المجتمع الليبي و انتقال طاقته من حالتها غير النافعة الى حالة نافعة مستثمرة تقدم اضافات طاقية جديدة تدفع المجتمع للامام و تجدد وجوده الاجتماعي و الثقافي.
ان المجتمع الليبي بحالته السكونية يمثل " الطاقة الخام- الفجة " و ان حالة تفعيل الفرد لنظام مجتمعه ( بالتعاون و التكافل ) و تنمية ثقافته يعمل على استثمار هذه الطاقة الخام فيحولها الى طاقة محولة نابضة بالحركة و محسنة. فتطوير المواد القانونية و جعلها مسايرة للتطورات الحضارية و التقنية و التكنولوجية، و تنمية اساليب الحركة التجارية، و تطوير الاساليب الصناعية و سبل انتاجها و تعديل قوانين العقاب و تحويلها الى تاهيلية علاجية و انماء اليات السلطة الحاكمة الحالية او نظام الحكم ما بعد انتخابات ديسمبر 2021.
ليبيا والمجتمع الليبي في افق 2021
عمليا، السلطة القادمة في ليبيا بعد ان تتم المصالحة الشاملة بين السلطة الجديدة و نظام الحكم القديم بما في ذلك القوى الارتكاسية و طي صفحة الماضي بكل سلبياته، مطالبة بالدفع نحو الامام و ذلك بالاهتمام بالقضايا ذات الاولوية مثل تطوير قطاع التعليم و تعصيره حتى يتماشى و روح العصر و بما يحافظ على الهوية الليبية و ايضا قطاع الصحة الذي يعاني الويلات لان عدد سكان ليبيا قبل الثورة كان في حدود الاربعة ملايين او اكثر بقليل و مع ثروة البلاد النفطية الفرصة متاحة للارتقاء بهذه القطاعات الحيوية. كذلك قطاع السياحة سواء الساحلية او الصحراوية يجب ايلاءه كل العناية. كما انني ارى من الضرورة بمكان تطوير اداء الخطاب الاعلامي الرسمي و الخاص في خطة عمل بناءة من اجل اعلام و صحافة متوازنة و موضوعية لان الاعلام هو ايضا رافد من روافد التنمية. و اعتقد ان مسار الاصلاح يبدا باصلاح الادارة و الحوكمة و تاسيس مؤسسات قضايية مستقلة من اجل خدمة المواطن الليبي الذي يتوق الى بناء دولة مدنية، قوية و تقيم علاقات جيدة مع جيرانها و اصدقاءها.
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا