كتاب ومواقف
الثورة الحضارية الكبرى في أمريكا
بقلم
د.أحمد القديدي
إشتعلت مدن الولايات المتحدة بغضب الجماهير ضد بقايا العنصرية و التهميش و انتقلت العدوى الى مدن كندية و أوروبية لنفس الأسباب و يتذكر الكبار مثلي أن أخر ثورة أمريكية عارمة حدثت عام 1968 على إثر إغتيال المناضل الأسود (مارتن لوثر كينغ) و بعده إغتيال السيناتور (روبرت كيندي) بعد اغتيال الرئيس جون كينيدي بخمسة أعوام. فتح اليوم باب المجهول مع انتشار وباء كورونا الذي أيقظ في الضمائر الأمريكية غضبا كان مخزونا لمدة قرنين و نصف (تاريخ بعث دولة الولايات المتحدة على أيدي جورج واشنطن) لأن كورونا هي التي تسببت في مايو 2020 في وجود 40 مليون عاطل عن العمل (من بينهم 32 مليون من أصول إفريقية و 8 ملايين فقط من البيض) ثم إن كورونا تسببت في موت حوالي 100 الف أمريكي (موت المواطنين السود 4 مرات أكثر من البيض) و كأن هذه الحقائق لا تكفي فجاءت جريمة مقتل المواطن الأسود (جورج فلويد) تحت ركبة المجرم (ديريك شوفين) وهو يطلق زفرته الأخيرة (لا أستطبع التنفس إنكم تقتلونني) و بالفعل قتلوه وهي في الولايات المتحدة (و في فلسطين) جريمة عادية لا يعاقب مرتكبوها بل ترسل لهم الإدارة في بعض الأحيان لوما خفيفا مع دعوة لمسك الأعصاب!! والإدارة بهذا السلوك المشين تشجع على القتل و تطلق غول العنصرية من القمقم وهو اليوم ما أشعل نار الغضب. و الغضب ليس مقصورا هذه المرة على حادثة القتل و لا على استمرار الممارسات العنصرية بل إنه غضب يتفجر ضد (السيستم) بأسره أي ضد منظومة العلاقات الاجتماعية و القانونية و السياسية التي تسود في النظام الفيدرالي و في الأنظمة المحلية أي أنظمة الولايات في الولايات المتحدة. و الشعار المرفوع هو (لا أستطيع أن أتنفس) ليس عبارة الضحية فحسب بل صرخة مئات ملايين المواطنين الأمريكان الذين هم أيضا لا يستطيعون التنفس إجتماعيا و سياسيا! وقد إمتدت المظاهرات منذ يوم الأحد الى محيط البيت الأبيض لأن الرئيس ترامب غرد بتويتر (يوم السبت 30 مايو) قائلا "إنني أتهم اليسار الأمريكي و أنصار الفوضى بافتعال أزمة و دفع الناس للتظاهر!!" و لأول مرة منذ 1968 وصل دخان القنابل المسيلة للدموع الى مكاتب البيت الأبيض و قالت بعض الصحف الكبرى بأن كتيبة الحماية الشخصية للرئيس وضعت ترامب في مأمن داخل ما يسمى (البلوكهاوس) أي الملجأ المحصن ضد العدوان النووي (أخر رئيس زار الملجأ هو بوش الإبن يوم 11 سبتمبر2001 الدموي!). هذا الغضب كان موجها ضد (سيستم) تكرار المأساة لأنه لم يحسمها بالعدل فشعر الشباب الأمريكي و ليس السود وحدهم أنهم مهددون في كل لحظة بالإضافة إلى أن الرئيس الحالي ألغى منظومة الضمان الصحي (كار أنشورنس) التي سنها سلفه باراك أوباما و اعتبرت من أعظم إنجازاته الداخلية فالمواطن الأمريكي الذي يصاب اليوم بوعكة أو مرض ليس من حقه أو في إمكانه التداوي و لا حتى مجرد كشف طبيب على مرضه و طبعا لا يملك ثمن الأدوية و لا دفع تكاليف المشافي! بمعنى أن أمامه إما الجريمة (و تمت في حالات عديدة من أجل الحصول على المال باستعمال السلاح) أو الموت أو في أفضل الحالات اللجوء الى الجمعيات الدينية لتحمل تكاليف علاجه (ومنها جمعيات مسيحية و إسلامية و بوذية) هذا جناح واحد من أجنحة السيستم أما الأجنحة الأخرى العديدة فهي المتعلقة بالقوانين الجائرة التي تخدم رأس المال المتوحش فقط و تكرس ميزانية الدولة لتمويل التدخلات العسكرية الأمريكية خارج الحدود و أخرها إستعداد (الأفريكوم جيش التدخل الأمريكي في إفريقيا) لتحجيم القوى الروسية المتغولة في ليبيا و التي جاءت بسلاح جوي و طائرات من أجل مساعدة المتمرد على الشرعية و الإعتداء على تونس لإجهاض الأنموذج الناجح الوحيد للربيع العربي و القضاء على الإستبداد! ثم محاولة حصار الجزائر وهي تتعافى تدريجيا من حكم الرئيس بوتفليقة الشبح! إننا نعيش لحظة تاريخية و أمام أعيننا يولد أمل جديد في نظام عالمي مختلف عن النظام الأطلسي الجائر و السؤال ماهو وضعنا نحن العرب في ملامح النظام العالمي الجديد؟ بينما نحن ما نزال أمة تعيش على هامش التاريخ و سلم البعض من ضعاف النفوس و أنصار صفقة القرن مفاتيح مصائرنا الى أيدي غيرنا! و لله الأمر من قبل و من بعد و إلى الله ترجع الأمور.
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا