الحلقة السادسة من كتاب الترحال بين الغريس وسقدال
كتاب على حلقات بقلم الاستاذ احمد الخصخوصي
كتاب على حلقات بقلم الاستاذ احمد الخصخوصي
على أنّ لوادينا عامّة مظهرين من مظاهر الطبيعة على وجه العموم. له سجيّة من سجايا الجود وجبلّة من جبلّات السخاء كلّما رضي وانبسط وجهه وانطلقت أساريره. في هذه الحالة يهشّ لأهله بمبلغ طاقته ويتعطّف عليهم بغير حساب ويتحدّب على أحوالهم بلا حدود. وله إلى ذلك وجه الطبيعة الآخر عندما تغضب فتجفو وتقسو وتثور وتهيج هياجها الساخط وكأنّها تجسّم- بصفة أو بأخرى- المعنى الأصلي للجزاء الأوفى وجها وقفا على سبيل المكافأة أو العقاب. أليس هو الذي يشيع نبض الحياة في الأولاج وينشر الخصب على امتداد مجراه وعلى جنباته حيث تهتزّ الأرض وتربو فتُنبت من كلّ زوج بهيج. عندئذ يرفل أديمها مزهوّا في حلله القشيبة ويجود بخيراته نباتات وأعشابا وزرعا و"قصيلا" (وهو الزرع النابت قمحا أو شعيرا قبل أن تظهر سنابله) يَسُرُّ الخيل ويُسَرُّ بقضمها إيّاه حتّى يشتدّ عوده نضجا ويزداد طولا. وتُنبت تربة الوادي من كلّ زوج موزون نَوْرا وزهرا تقطفه قطعان الماشية فتسمن عليه، هذه الماشية التي تجود بفيض من اللبن تضيق به الشكاوي (مفردها شكوة وهي إناء من جلد يستعمل لمخض اللبن الحليب) وكمية من اللبإ الطازج (وهو الحليب الأوّل الذي يتّخذ جبنا حالما تلد الأنعام) كما تجود بفيض من زبدة وسمن تعجز المداهن والعكاك والجرار عن احتوائه. ولا تسل عن "اللبن" الممخوض فإنّه إذا زاد على حاجة المستهلكين سرب إلى "القحاف" (مفردها قحف وهو الإناء المعدّ لمآكل الكلاب) يملؤها فتُقبل عليه الجراء والكلاب وقد انطلقت أسارير وجوهها الطوال ترحيبا وبرقت عيونها تهليلا. عندئذ تحرّك أذنابها على اليمين وعلى الشمال وتلوي "مسالينها" (مفرده مسلان وهو الجزء الأسفل من العمود الفقري) في مهرجان راقص "رقصة البطن" على وزن " دخول البراول" في "مالوف الهزل" ثمّ على وزن "البرول" عندما تقبل ربّات البيوت محمّلات بالنخّالة لـــ"بثبثتها" باللبن (لا خلطا ولا مزجا باعتبار عدم تجانس العنصرين في الصلابة والسيولة).
والأصل في هذا النوع من اللبن وقد ذهبت معظم دهونه زبدة وسمنا أن يُسيغ به الآكلون التمر "المنصّف" فيفثؤون به حارّته، ذلك التمر المشقوق نصفين (وقد سمّي بذلك) القادم من جهة نفزاوة وقد حملته أواخر الخريف قوافل الإبل وعليها الغرائر "الشخماء" فاتحة اللون المنعوتة بــــ"الحمراء" لتمييزها عن الغرائر السود والبيوت السود لمجموعات قبلية أخرى لها ألبستها الأخرى وأكسيتها الخاصّة وأشياؤها المختلفة.
تقبل الإبل مبشّرة بالوفرة والدعة وهي تمشي الهوينا قطارا منتظما منضبطا يتّبع في استقاماته وتعرّجاته ما شاء أن يرسمه الطريق لها. وليس لها إلّا أن تتّئد وتتمهّل في أناة وتبصّر، ذلك أنّ الدروب طويلة والأحمال ثقيلة والأبدان كليلة بعدما كابدت قِطعا من العذاب متعاقبة تجبرها على أن تتخيّر مواقع أخفاف أرجلها وأيديها وأن تُوقّع خطاها على وزن "البطايحي"، "بطايحي مالوف الجِدّ".
على أنّ ذلك النسق الرصين الذي يفي بحاجات السفر المرسومة ربّما قطع رتابته عند الاقتضاء أحد الحداة إذا لاحظ أنّ الكَلال دبّ في الأطراف وسرب إلى المفاصل وسرى في الأوصال. فإذا تبيّن الحادي بوادر من السآمة والبرم عمد إلى استفزاز النوق والجمال استفزازا هادفا وانبرى رافعا عقيرته بالغناء و"هزّ الطَرْڤ " أو "الصوت" في "طبع" معلوم هو طبع "النوى"، فإذا الجمال والنوق ترتمض اهتزازا وتأثّرا على مقطع اصطلح أصحاب الترقيم الموسيقي على تجسيمه بالنوتات التالية": دو سي صول لا لا سي دو ري دو لا ري دو لا صول فا صول فا لا صول لا صول فا مي ري.
(Do si sol la la si do ré do la ré do la sol fa sol fa la sol fa mi ré.)
هكذا، وربّما ذكّر هذا اللون من التنغيم غير المقيّد بوزن بما كان يعنّ لشيخ "المالوف" المرحوم خميس الترنان أن يأتيه خلال بعض الحفلات التي كان يُحييها على المنصّة المنتصبة في الساحة السفلى من "مقهى الصفصاف" بالمرسى المحروسة.
كان الشيخ إذا انقضى الجزء الأوفر من السهرة وأشرف الحفل الموسيقي على وصلاته الأخيرة ربّما أشار إلى أعضاء فرقته بالتوقّف عن الإنشاد وعن العزف وعمد إلى مداعبة الجمهور بطريقته الخاصّة واحتضن عوده "التونسي" ذي الأوتار الأربعة ليُسمعَ الحاضرين مقدّمة "استخبار" في نغمة مخصوصة هي نغمة " النوى" حتّى إذا سمعها جمل الصفصاف القائم بجانب البئر وناعورة الماء انتفض انتفاضة فجائية واضطرب وأخذ يدور حول البئر دورانا متسارعا لا عهد لزوّار المقهى به.
حينئذ تنشغل السيّدات الحاضرات بعض انشغال بما فوجئن به من حركة الجمل المباغتة ويُهرعُ الأطفال إلى أحضان أمّهاتهم توجّسا واحتماء، ويقوم السادة المتفرّجون في هدوء واتّئاد ويتوجّهون توجّه "أصحاب الجبهية" إلى "ذوي الحسب والنسب" إلى صاحب العود يخاطبونه خطاب اللطافة والتودّد أنّ السهرة "حَلَتْ" وأخذت زُخرفها وازّيَنت وأنّها مطلوبة الآن أكثر من أيّ وقت مضى وأنّ الليل مازال في أوائله. عندئذ ينزل قائد الفرقة عند رغبة الراغبين ويشير إلى جوقه أن استأنفوا وصلات المألوف فترتسم على الوجوه آيات من انطلاق وبِشر مُشرب بلذّة أليمة وقد حنّ أصحابها حنين الناب إلى سقبها ونزعوا بمخيّلاتهم إلى تاريخ بعينه طويل، تاريخ الأندلس وأيّامها ولياليها ومياهها وجنانها وقصورها ومغانيها ومغازيها وموشّحات أجدادهم سواء منها "الآلة" أو "الغرناطي " أو "الحوزي" أو "المالوف".
ينتصب الحفل من جديد وتعود البهجة بعودة الطرب فرحًا وشجًى في آنٍ دون أن يرجع عازف العود إلى مقام النوى حذر أن يُستفَزّ الجمل وتنشغلَ النسوة ويَوْجلَ "الصغار".
كان الشيخ إذا انقضى الجزء الأوفر من السهرة وأشرف الحفل الموسيقي على وصلاته الأخيرة ربّما أشار إلى أعضاء فرقته بالتوقّف عن الإنشاد وعن العزف وعمد إلى مداعبة الجمهور بطريقته الخاصّة واحتضن عوده "التونسي" ذي الأوتار الأربعة ليُسمعَ الحاضرين مقدّمة "استخبار" في نغمة مخصوصة هي نغمة " النوى" حتّى إذا سمعها جمل الصفصاف القائم بجانب البئر وناعورة الماء انتفض انتفاضة فجائية واضطرب وأخذ يدور حول البئر دورانا متسارعا لا عهد لزوّار المقهى به.
حينئذ تنشغل السيّدات الحاضرات بعض انشغال بما فوجئن به من حركة الجمل المباغتة ويُهرعُ الأطفال إلى أحضان أمّهاتهم توجّسا واحتماء، ويقوم السادة المتفرّجون في هدوء واتّئاد ويتوجّهون توجّه "أصحاب الجبهية" إلى "ذوي الحسب والنسب" إلى صاحب العود يخاطبونه خطاب اللطافة والتودّد أنّ السهرة "حَلَتْ" وأخذت زُخرفها وازّيَنت وأنّها مطلوبة الآن أكثر من أيّ وقت مضى وأنّ الليل مازال في أوائله. عندئذ ينزل قائد الفرقة عند رغبة الراغبين ويشير إلى جوقه أن استأنفوا وصلات المألوف فترتسم على الوجوه آيات من انطلاق وبِشر مُشرب بلذّة أليمة وقد حنّ أصحابها حنين الناب إلى سقبها ونزعوا بمخيّلاتهم إلى تاريخ بعينه طويل، تاريخ الأندلس وأيّامها ولياليها ومياهها وجنانها وقصورها ومغانيها ومغازيها وموشّحات أجدادهم سواء منها "الآلة" أو "الغرناطي " أو "الحوزي" أو "المالوف".
ينتصب الحفل من جديد وتعود البهجة بعودة الطرب فرحًا وشجًى في آنٍ دون أن يرجع عازف العود إلى مقام النوى حذر أن يُستفَزّ الجمل وتنشغلَ النسوة ويَوْجلَ "الصغار".
يطرب كلّ بعير فيلتفت التفاتات خفيفة يمنة ويسرة ثمّ تعلو أنفاسه وتحتدم متصاعدة متدافعة. ها هي الإبل قد طربت. عندئذ يخشى عليها الحادي من أن يضطرب مشيها وتتعثّر أرجلها وقد حقّق غايته في تنشيط القافلة فيتوقّف عن "هزّان الصوت" حذرا عليها وإشفاقا بها. يكون ذلك عادة عند الوصول إلى "البَحاير" ذلك الفضاء المفتوح المعدّ لمراع صيفية للإبل قبل الوصول إلى "الحامّة" الواقعة في منتصف الطريق تقريبا. ها هي الإبل قد طربت، فهل تأثّرت فرحا ومراحا أم تحرّكت تلك الحركات شجى واهتماما؟ أصحيح أنّ لغة الأنغام لغة أفقية تخترق كلّ ما عداها من اللغات إلى درجة أنّها لا تحتاج إلى ترجمة مترجم؟ يا للعجب ! أتشمل لغة الألحان الكثير من الأنواع الحيوانية تستوي في ذلك الخيول والزواحف والسوامّ والأسماك حتّى تنزع إلى شجيّ الأصوات وتحنّ إلى خفيف الأوزان على غرار ما يفعله السمّاكون من تصفيق وهم يصطادون على ظهر "بحر النيل"؟
وحين يصل "الزَمْل" (وهي القافلة المحمّلة بالبضاعة) يدعو الرجال الجمال والنوق إلى البروك عن طريق ضربات ليّنة خفيفة على رُكَبها. عندئذ يصّاعد رغاؤها الغليظ وكأنّه صوت "قرار" موسيقي شبيه بتحمحم الخيل حين تُحمل على الوغى مرارا وتكرارا. ترغو الإبل وكأنّها تتنفّس الصعداء بعد أيّام من العذاب، عذاب السفر باعتباره امتحانا من امتحانات التحمّل وبلوى من بلاوى التصبّر يستوي في ذلك الحيوان والإنسان. إلى هذا الحدّ تتوقّف تلك الألوان من المعاناة والأشكال من المكابدة وسرعان ما تتحوّل إلى أحاديث تُتداول وسط "الميعاد" (وهو المجلس الأعلى للقبيلة) أو في المجالس الخاصّة والحلقات الضيّقة عند المسامرات المنتظمة حول مواقد النار الملتهبة.
إرسال تعليق
سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا