الكاتب محفوظ الزعيبي يكتب لكم قصة جديدة //ترنّحات اللحظات الفارغــة الكاتب محفوظ الزعيبي يكتب لكم قصة جديدة //ترنّحات اللحظات الفارغــة

الكاتب محفوظ الزعيبي يكتب لكم قصة جديدة //ترنّحات اللحظات الفارغــة

الكاتب  محفوظ الزعيبي يكتب لكم قصة جديدة






ترنّحات اللحظات الفارغــة


قصة بقلم : محفوظ الزعيبي


منذ أن خرجت، لم أكن أدري إلى أين أتّجه، سوى أنني قررت الذهاب إلى حيث تنطلق سيارة مترنحة تكاد تختفي تحت الطين... بقي –حافظ- في انتظاري لأنني أخبرته بالمجيء إليه.. فكم أستلذ بخرطوم الماء في يديه وهو يوجه الرشاش نحوها، فتنهار الأتربة وتسيل إلى خيوط عبر الزجاج والحديد المصقول ثم تتساقط وتتجمع في الخندق الأسود، وتستعيد تألقها ولمعانها ورائحتها.. أخلفت الموعد خوفا على قضاء نصف نهار في –الكاراج- و –حافظ- يبدع في عمله وكأنه يسكن في دماغي لأنه يأتي على كل صغيرة وكبيرة كنت أفكر فيها وتشغل بالي، وهو لا ينقطع عن أهازيجه وترنمه بأغاني المزود، وتنقله الخفيف من هنا وهناك، وقفزاته الرياضية فوق الحفير، ثم تنظيف المحرك حتى أن السيارة تبدو بعد ذلك كأنها جديدة... لم أذهب إليه هذه المرة وخالفت موعدي معه لأنني سرت بدون وجهة معينة أو رسم خارطة توضح السبيل... في بداية الطريق بدت لي الأشياء العادية كما كنت أتصورها وأنتظرها : كلاب سائبة تذرع الحقول في لهاث، متحفزة، منضنضة، قوية الأشداق بمفعول ما التهمته من لحوم الخرفان الميتة.. تدور في كل اتجاه متحفزة للعذر والمعارك.. جوقات – الزرزور- وهي تطل من فوق أسلاك الكهرباء متأرجحةـ، تذرق بين الحين والآخر، وتنقر ريشها وتظل في طوابير طويلة مرسلة صفيرها الخافت دون أن تطير أو تغادر أمكنتها... كانت الشمس متكاملة تنفث بواكير النور فتدهن الأفق الشرقي بلون اصفر باهت.. في الجبهة المقابلة للطريق مجزرة – عم الصالحي- مطلية بلون الدماء، وأمامها مجموعة من الخرفان المنكسة كأنها تشعر بمصيرها القاتم... وتتدلى في المعالق رؤوس المعيز والكباش ونفاخات بها أحشاء النعاج، السكاكين بين يديه ويلقي نظرات إلى اليمين والشمال، ويفصل الأفخاذ لقطعها بالسواطير وكلما انتبهت إلى عمله السريع شغلتني مهارته وأنا أظن أنه منحني أجود اللحم من الهبر لكن يخيب أملي عند العودة به إلى المنزل ولا أصدق ما أجده من شحوم فيه... وأتذكر العبارة الشعبية – يحلف بيمين جزار- ولكنه كاذب.. ها هو –ميلود- مجنون القرية يسير كاليربوع.. وينهب المسافات التي يهرولها مرات عديدة كل يوم.. كنت أجده دوما في ذلك المكان.. أشعت الرأس، حافي القدمين، ضائع النظرات، يتمتم ويضحك ويطلب السجائر بصمت وبحركة تدل على رغبته في التدخين.. وكنت أشفق على حاله لأن عقله ضاع في شبابه، فلم يتمتع بالحياة، بل ودع زينتها وهو في عز العمر، وولج عالمه الخاص لا يعبر عن أوجاعه ولا يشكو من أوضاعه وهو على تلك الحالة من الذهول والسخرية.. وكنت أود لو أقتحم بابه المقفل لعلني أكتشف أشياء جديدة قي عالمه ولكنني اصطدمت بجفائه ونفوره مني فلم أحاول خوفا من إثارته.. لم أستطع ولوج طريق – الشابة – لانهمار السيارات المجنونة... توقفت طويلا يأكلني الانتظار... عفست على الجمر لانتهاز فرصة العبور.. لم أغامر اتقاء الحوادث.. أناس مسعورون يقودون السيارات بدون رحمة أو حذر.. يتراهنون على الموت بتهور فضيع.. يتكالبون على الشواطئ في يوم من أيام –أوسو- فيقطعون مسافات بعيدة نحو المهدية مهما كلفهم ذلك.. يهربون من جحيم الغبار وطرق الحديد وضيق السبل واختناق الهواء.. هذا الفرار الذي يأتي كل صيف في رحلات محفوفة بالخطر أصبح من سمات هذه الطريق الموبوءة الجهنمية، التي قفزت نحوها المحلات والمباني والجدران الطويلة بدون نظام وترتيب وتهاطلت فيها الحركة – وزحف العمران على المناطق الخضراء بكل فظاظة كأن البلد يعد عشرات الملايين، ولكن الواقع يكشف أن تونس برقتها وما يهب فيها لا يساوي عدد مدينة واحدة من البلدان المكتظة بالسكان... تسليت بمشهد – بوخريص – وهو يرقص بين النسوة في عربات عرس – فائز العباسي- في ذلك الضجيج وتعالي الزغاريد ونقر الدرابك وهتاف الشباب وصيحات التزمير والتحيات المتبادلة وجدت نفسي ملزما على المشاركة في الاحتفال بإيماءات وابتسامات وحركات تنشيطية للتحريض والتهريج... فبادلتهم البهجة بالفرح والنشوة بالغبطة.. والسيارات تنطلق كالرصاص الواحدة تلو الأخرى.. تموج بالعدد الغفير من الراكبين، و-بوخريص- ينتفض ويرفع يديه إلى السماء ويدور ثم يلوي خصره ويدفع مؤخرته إلى الخلف في حركات مسلية ويومئ بالزنار ثم ينهمك في الرقص من جديد وكلهم يصفقون : "يا حوات.. يا حوات.." والعرق ينضح من جبهته المعتمة ومن إبطيه القذرين.. ستكون السهرة في دار – فائز العباسي- مع الأديب الشعبي- رمضان بن التهامي- الذي يستمر في غنائه إلى الفجر على طلقات البارود وهاتف السمار وهو يتبرج بالجبة – السواكي- واضعا يده على خده، فيقدم –الملزومة- تلو الأخرى، وخلفه- السعفة- يجاوبانه بنغم موحد والعيون مشرئبة نحو المحفل والصدور الموشحة بالذهب والوجوه الغضة العاشقة في وله وفتون خلف سحائب البخور، وجدائل الشعر..
على تايهه في جيل                    ولفي صغيره لابسه ضبّاح
خلقها الإلاه جليل                      كما شمس تغشي لاحظة لشباح
عليها غثيث طويـل                     إذا حدراته ع الصدر يتــــــــــــــلاح
القصة مثيل الليل                      ولا غربه سابليـــــــــــــــن جنــــــــــــــاح..
وستلتقي المجموعة في السهرة يتزعمها –قسومة- كما كنا نسميه.. هو القائد والحكم والنجم الثاقب والمعلق على ما يجري من أحداث وهو المشوش الأول بدون منازع الذي لا يسكت ولا ينقطع حديثه مهما طال السهر.. ولكنه حاذق وماهر في تدخلاته لدى أصحاب العرس لتقديم الخدمات الضرورية... أطباق الشاي التي تحضر في الحين.. قوارير المياه المعدنية... وما أمكن من الغلال والمكسرات والمشروبات الغازية.. لهذه الأسباب كان يحظى بالإجماع  ولا ينافسه أحد في ذلك إضافة إلى خفة دمه وطرافته وجرأته... تعودنا بقسومة- وهو يتصدر المجلس بضخامته وطلعته البهيجة وبكرسيه العريض الغائص في التراب، بدون كلل وإعياء... وبتعاليقه المستفزة المقبولة منه دون غيره... وله خبرة في مشاكسة النساء والتحاور معهن بأسلوبه المرن الذي يمس حدود السخافة أحيانا ولكنه سرعان ما يتخلص من الفخاخ والتعقيدات ويكيل المدائح بإطناب للفتيات فيرضين عنه ويملن إلى ملاطفته ونحن نتابع حواراته التي تعلو وتهبط ونقرصه أحيانا للكف عن المواصلة، فلا يعبأ بنا ولا يهتم بملاحظاتنا واحترازاتنا...
كان – بلقاسم الصاروخ – يعدو نحوي بمظلة السعف المكومة بثمار اللوز.. هدية مناسبة في مثل هذه الوقفة المفاجئة.. فبمجرد إشارة من زوجته حتى انطلق إلى السيارة ليفتح بابها الخلفي مبتسما قائلا : "هذه لك من عند ربي.. الخير كثير.." فأكبرت فيه قناعته رغم ضيق ذات اليد وهو في حاجة إلى المساعدة.. إن قلبه كبير ويده كريمة.. وكم أعجبت بطيبته وأنا أبارك صنيعه وأدعو له بفرح الأولاد والحج.. وكنت انظر إلى صورته الكبيرة الرائعة وقامته الفارعة من خلال المرآة العاكسة وهو يجري نائيا عني ملوحا بمظلته، هانئا مغتبطا، وأطفاله يتشبثون بأغصان اللوز الطرية المائسة ويتنقلون بين فروعها كالعصافير...
الجني وافر والأكياس واقفة قرب العربة والحمار يجرس الأعواد اليابسة ويطحنها بأضراسه الصلبة العاتية... ربما انشغل –حافظ- عني بعد طول انتظار، لأنني أخلفت موعدي معه... وهناك كثيرون يتسابقون للوصول إليه ونيل رضاه.. وبإمكانه أن يمكر بأحدهم أو يؤجله إلى المساء بسبب الزحام وكثرة الطلبات عليه... يا – عجمية- بنت جارنا – عمارة- يا حسرة على الأيام الخضراء المعشوشبة ونحن نتصيدك بشباكنا يا – كعبة القاروص- هل تذكرين لقاءات الزرع في آخر الحقول المائجة، ونحن نتنافس على الفوز بك.. وأنت كنوارة- جنان الواد- تنفذ إليك النسائم العطرة من كل مكان، فيتفاوح نهداك الثائران.. وكم ذبحتنا بضحكاتك وومضات ثغرك تحت الشمس.. ولم نشعر كيف اختطفك – قويدر- منا ونأى بك إلى العاصمة ليحرمنا من سلسبيلك.. ثم عدت أرملة، كاسفة، مكسورة الجناح، ولكن النوار ما زال يانعا في وجهك وما زال الألق ساكنا في عينيك... لو كانت الدنيا منصفة ما كانت نهايتك بهذا الشكل... عروس جديدة في سيارة – الباشي- ترمم شبابها بالحناء والمساحيق والأشناف.. لمحتك من أول وهلة محاذية – الحاج مخلوف- ابن التسعين وهو يتنمر ويفتل شاربين كالقطن. ويلفك بذراعه الأيسر المفتول بمنتهى التطاوس واسترجاع الفحولة... وأنت أصغر من ابنته الأخيرة.. كيف يرتشفك ويمتص نضارتك لتصطبغ على وجهه وتسري في عروقه وتنشط في داخله الدماء، وتنصاعين لشبقه الشائج المغلوب ولرائحته العجوزة.. كثير من الشبان عضهم الندم لأنهم لم يتقدموا إليك ولم يطلبوا يدك، فخسروا عرمة الجمال والحسن المكدس... هنيئا للحاج مخلوف بحيازة الأقحوانة وللأعوام التي سيضيفها لعمره البالي وبارتشافه الرحيق المعتق... يا لحظك وقيام سعدك يا حاج... والله أحسدك.. وليست بيدي حيلة... أرجو أن يسامحني الله من شر الحسد.. الرحمة يا إلاهي.. تواترت هذه المشاهد في لحظات قصيرة قبيل الانعراج وأنا لم أخطط ولم احمل أي فكرة في دماغي.. فبمجرد التفاتة قصيرة نحو سيارة النقل الريفي وهي تفرغ مجموعة من نسوة القرية حتى أشفقت عليهن للتعب البادي على ملامحهن،  ولثقل حركاتهن وبمجرد أن تدرجن متمايلات من فرط البدانة بسبب تقاعسهن وعدم مقارعتهن لصلابة الأرض وامتهانهن للأعمال الشاقة، وما تختزنه أعجازهن من ترسبات السكر والملح والشحوم حتى أن طبيب القرية أطلق صرخة فزع من استفحال الأمراض المزمنة وتمكنها من الأجسام المعتلة التي لم تروض على المكابدة والمجاهدة في الأشغال.. واختزل دور المرأة على واجباتها مع بعلها، والقيام بشؤون التنظيف والطبخ والجلوس أمام الموائد وأطباق الحلويات خلال الزيارات والمناسبات اليومية... وأصبحت أحاديث النسوة تدور حول – الحرابش – وأنواعها والمواعيد الطبية المتباعدة... وانحرفت الحياة في القرية وفقدت أصالتها... آه على أيام – أمي سالمة- البطلة المناضلة العفريتة وهي تجلب الماء من مواجل – الزياني – البعيدة وعلى ظهرها القلة – الساحلية – وفوق رأسها – الدرجية- فتولول بغناء – الحفالي والحجبة- ثم تأتي بالحطب وتخبز وتشغل التنور وتطبخ وتتفقد الدجاج والأغنام وتحلب وتمخض وترحي.. والأشغال لا نهاية لها والحركة دؤوبة والبركة فائضة والركن عامر... لم تقابل في حياتها طبيبا ولم تخترق لحمها إبرة ولم تنهض يوما بعد بزوغ الشمس.. انزعجت من المؤخرات الضخمة ومن انحرافات الأبدان وكتل الشحوم في البطون والأوراك ومن أجسام على شكل قوارير- الأورنجينا-.. إنها أكبر تعاسة يصاب بها المرء مع زوجة انصاعت للشهوات فآلت بنفسها إلى هذا المصير القاتم في عصر ملعون انقلبت فيه الحياة رأسا على عقب... هذه خرافة كبيرة تحتاج إلى دراسة معمقة وليس بالإمكان حل معادلتها في لحظة عابرة... كنت أرصد كل شيء حولي بتفرس وإمعان.. لم أعرف أسباب مطاردتي للأشياء بهذه الدقة رغم أنني لم أرسم أي مخطط لجولتي.. وكنت أشعر في المقابل أن كل العيون تتابعني وكأنها تنفذ إلى أعماقي وتكشف ما أخفيه من أسرار. وتطلع إلى نبضات قلبي وما تحمله من أحاسيس فأصبحت تراني من الداخل وتعرض كل ما في باطني على الاشعة... وكنت أسترق النظر إلى عناوين الصفحة الأولى من جريدة حديثة العهد ويداي على المقود وأنا ضائع بين الصور والسطور وحركة الطريق في قلق وارتباك لولا كبح الفرامل دفعة واحدة ورائحة المطاط المتأنية من احتكاك العجلات على الاسفلت الأحرش... وقهقهة مدوية من طرف – حبوب- سمسار الأغنام.. يا له من وغد ملعون.. كدت أسحقه لولا ألطاف الله، وعيناي مشدوهتان نحوه ونظراتي تكاد تمرق من داخل فمه المفتوح على مصراعيه من فرط القهقهات... ثم يتسع أكثر ليضيق على الأنف المحشور بين العينين، فتتجلى جذوع أسنانه الداخلية النخرة الملحومة بـ"الإينوكس".. تراجعت عن البصاق عليه، ولعنت الشيطان، وتجعدت المساحات المحيطة بعينيه الماكرتين، ثم اتكأ على النافذة المفتوحة وهو يقلب بصره داخل العربة.. فحص هاتفي الجوال، وعبث به قليلا ثم أرجعه إلى مكانه، وجس بعض الأوراق، وتأمل وجهه القبيح في المرآة وأنا أنتظر إفصاحه عن بغيته.. حرك شفتيه، وصمت قليلا ثم تخلى عني بدون سبب، وتسللت أصابعه لإخراج سيجارة من العلبة التي في جيب قميصه وتلهى بجماعة آخرين ينتظرونه أمام مجزرة – عم الصالحي-... يا له من معتوه.. إن كثيرين مثله لا أفهمهم جيدا ولا أستطيع الكشف عما يخامرهم... فابتسمت ومضيت... اعترضني – العم علي الكابو- على دراجته المسلوحة وهو يقودها بصعوبة وعناء، وقد امتد فوقها محاولا مغالبتها... وبذل جهدا أكبر عند تسلق القنطرة الصغيرة وبمجرد ظهوره حتى اختفى أصحاب المحلات بسرعة البرق، وفهمت أنه جاء لجمع كراء صف الحوانيت في رأس الشهر، ولا يتاخر عن ذلك ولو يوما واحدا، وانتشر الخبر بينهم كسريان النار في الهشيم : - الكابو جاء يا لولاد-.. ألم يبع كل زياتينه ليبني هذه المستودعات ليجني الأموال كل شهر وقد تشوهت واجهاتها بالزيوت وشحوم السيارات وكتابات العناوين بخطوط عرجاء مقرفة... ورغم حرصه على مواجهة المتصوغين في الموعد فإنهم يفسدون بنود العقود ويخلفون العهود، ويختلقون الذرائع والمماطلات للتأخير في الدفع.. و-علي الكابو- لم يجد المال لمعالجة قدميه المورمين أو تعويض – الشلاكة- المهترئة و –البلوزرة- المرقعة ذات اللون السنجابي... وأكبر فيه حرارة تحيته، وإيماءاته المتعددة ووضع راحته على صدره تعبيرا عن المحبة والتقدير... وأمقت فيه حديثه الطويل الفارغ وتفاهة أفكاره ورش اللعاب من فمه الذي لا يسكت المرصوص بلسان مكتنز يكاد يخرج منه... ثم يضع قدمه على الدواسة ويتثبت من ذلك جيدا، ويبذل قصارى جهده في سبيل دفع العجلة.. فيترنح قليلا ثم يأخذ اتجاهه متمايلا مغنيا بصوت  مسموع :
إدرول حالـــي            من فرقة مبروم الخلــــة
رمقات الجالـي          قليل والي ناي صبري لله...
و-الكابو- تتأرجح به الدراجة بين جانبي الطريق متماسكا فوقها لأنه يعرف خصالها وعشرتها منذ ثلاثين سنة... ويستمر في هذيانه وأهاريجه وأشعاره المقطوفة من قصائد الغزل... وكم استفدت من مشاميم الياسمين التي كان يعدها بنفسه، فيمنحني واحدا في كل مرة فأغدق عليه بالثناء لأنه يحب المدح فلا أبخل عليه بذلك ما دام الشكر مجانا، وقد جند جيشا من الصبيان لاعتراض السيارات وبيع المشاميم ويتقاسم معهم المرابيح.. وراجت هذه التجارة في المسافة بين القنطرة وبيته وأصبح هذا الحشد يسمى بجيش – الكابو-... وتعودت السيارات على التخفيض من السرعة في هذا المكان الذي تفوح فيه رائحة الياسمين وتروج فيه هذه البضاعة الناشطة.. في العلامة الكيلومترية الثانية كان – جوجو- مقتحما الطريق، متصديا لكل العابرين... ببذلته الأنيقة ونظارته الداكنة وربطة العنق الحمراء، وحقيبة الجلد وحذائه اللماع الاسود الطويل.. لقد كرهه الناس وقرر معظمهم عدم الوقوف له.. وسماه البعض بالسيد – اوتوستوب- لكثرة تعرضه للسيارات، كان ثقيل الدم، بليدا في كل شيء.. وأصبح مشهورا بهذه الطريقة وبتعاليقه الركيكة وكم سمعت بعضهم يقولون : "يا رب.. جبالك الرواسي ولا عبدك الثقيل – و –جوجو – مبهم في تفكيره وأعماله غامض في سلوكه وعلاقاته وقد اكتشفت بحدسي أنه محتال خطير، وأنه يتعاطى الشعوذة، ويفتش عن الكنوز، وأنه يحمل في حقيبته دفة للسحر وترويض الجان... والغريب أن الناس يستعينون به، فيخدعهم ويبتز أموالهم حتى أن أحدهم باع أبقاره من أجل دفع سهم لإخراج كنز من الكدوة المطلة على البحر. ولم تمض أشهر قليلة حتى أصبح –جوجو- يملك سيارة فاخرة، باهضة الثمن اقتلعها من رؤوس العباد... وتقدم له – المسالين- الفائحة الشهية... وما زالت النية والغفلة.. وما زال الطمع يزين للناس ويبني الأحلام ويفتح الآفاق..
في بداية المعبر الثاني أطلت فتاة ذات حسن وإضاءة.. على رأسها قبعة من الجلد البني... تومئ بيد وأخرى تتعامل مع الهاتف الجوال بكل جرأة وجسارة.. تلوك علكة، وتضم شفتين قرمزيتين في إثارة بالغة.. قلت في نفسي : كيف تسمح فتاة مثل هذه لنفسها بالتعرض للسيارات المجهولة.. ألا تخاف من اختطافها.. هناك مشبوهون يغتنمون هذه المصائد السهلة فتصبح فريسة مستساغة لشهواتهم.. ارتمت بجانبي دفعة واحدة وكنت اعتقد أنها إحدى القريبات حسب تخميني وتكهناتي.. ولكن حساباتي كانت خاطئة، فبمجرد التفاتة نحوها عرفت أنها غريبة وأنني لم أحسن التصرف بعد أن اكتشفت عراءها الفادح ووقاحتها عندما طلبت مني سيجارة، ولما أجبتها بأنني لا أدخن رجتني أن أتوقف أمام أول محل لبيع التبغ.. وراودتني أسئلة كثيرة للولوج إلى عالمها المغلق وفتح أسرارها... لم أفهم تواجدها في ذلك المكان وأدركت أن في الأمر سرا.. ولكن لماذا فتحت لها باب سيارتي وهل يعقل أن أتعامل معها بهذه السهولة فوقعت في مأزق كنت في غنى عنه... وأحرجتني لما طلبت مني اشتراء علبة – ميريت - ... هذه خطيئة أخرى ولعنى أصابتني في هذا اليوم... نظرت في عينيها الجريئتين فلم أقدر على المواصلة وانهزمت أمام حدقتيها المسمرتين في وجهي وكأنها تقول لي أشياء ممنوعة.. بحثت عن النجاة بأي ثمن.. قلت لها : ماذا تريدين.. وما هي وجهتك؟ أجابت بدم بارد : أنا الآن معك.. لن أتركك وحيدا.. واصل الرحلة ولا تنغص الجو.. فأغمضت عينا وفتحت أخرى وقلت : أي جو تتحدثين عنه؟ لم تهتم بي كثيرا، وكأنها تسخر مني وتستخف بي وتتعجب من كلامي نحوها وأجابتني وهي تتأمل وجهها في المرآة الداخلية : - لن أتخلى عنك، سأرافقك إلى آخر مدى.. هل سمعت ؟ وامتعضت من كلامها الذي لم يعجبني، فتشجعت وقلت لها : - تفضلي لقد أوصلتك.. إلى اللقاء.. ضحكت باستهزاء، ولوت عنقها بدلال قائلة : مسكين أنت.. تطلب مني مغادرة السيارة.. هذا مستحيل.. هل أنت مستعد لدفع الثمن.. قلت بغضب جاف : ماذا تقصدين.. من فضلك غادري السيارة حالا.. وارتمت على ظهر يدي فعضته وكشت كالأفعى في وجهي فأغمضت عيني من شدة الأوجاع.. لطمة صمت أذني.. وأشباح تتراءى لي وتتراقص أمام ناظري... أحسست أن السيارة ثقيلة، ومفتتة، بين الدوخة واليقظة كانت الوجوه تتشاطر وتنكسر خلف الزجاج المقسم إلى خرائط مختلفة الحجم... العالم حولي شاحب ثم أغيب عنه... ولكنني لم أكن كما كانوا يتصورون... عواء الفزاعة، والأضواء القادحة، وقناني الدم، والأوعية المركبة والإبر المغروزة... كنت أحس بها، والنقالة التي تئن تحتي وتصر عجلاتها الصغيرة على جليز الأروقة المتداخلة ظلت حاضرة في ذهني، والقميص الذي  مزقوه على صدري المهشم المعفر بالاحمرار ما زالت صورته ماثلة في ذاكرتي... الغرفة المتجهمة التي استقبلتني واستوعبتني ظلت سورا مستحيلا للعبور.. ومن خلال الزجاج المكثف يحاولون تمرير نظراتهم المتعبة العاجزة... ومن الأبواب المقفلة لا يمكن التسلل أو التناهي إلي... ركض الزمن في أوردتي وشراييني، ومنحني جوازا للبقاء.. وعادت إلي الروح كمهر أرجعته الريح وأزيلت معالم المراسم التي أقيمت للرحيل، دام النوم أسبوعا كاملا بين الموت وسبورات التسجيل والخطوط المنحنية والمنكسرة ودرجات الحرارة... بين اليقظة وإغفاءة التخدير... بين الوجوه الواجمة والابتسامات المطمئنة الآملة يتحدد المصير... ربع ساعة فقط كان يكتب كما شاء.. يرسم صورتي الجديدة... "حبوب" صاحب أسنان الحصان يقع علي باكيا، يصب ملح دموعه على شفتي الباردتين... لم أر في حياتي رجلا ينتحب بمثل تلك المرارة... كنت أصغي إلى نشيجه العميق المصبوب في دماغي والذي يبكي الحجارة... والعم –علي الكابو- تخنقه العبرات، ويتماسك، ثم يتقهقر شيئا فشيئا ويتضاءل وجهه المتعب ويتكدر خلف الدموع.. لماذا عجز لسانه الغليظ عن الهذيان ؟ لماذا تأخر عني ولم أعد أرى من خياله سوى قمة شاشيته.. أين المشاميم التي كانت تخرج من بين أصابعه، ناظرة، شذية؟ لماذا لم تحضر في مثل هذه المناسبة... لماذا غابت تلك الهدية التي كان يتحفني بها في كل مرة ؟ لم أر بين المتدفقين من كل صوب وجه الفتاة الوقحة التي تسلطت علي، وارتمت بجانبي بدون إذن مني، ولم تنفعها كلماتي الناهرة لجلدتها الغليظة.. يبدو أنها توارت عني، والتمست الفرار وذهبت بدون رجعة حاملة سرها معها.. لا داعي لحضورها لأنها من الأبالسة الشريرين الجفاة.. ولن يفلح –جوجو- في الاستيلاء عليها وجعلها رهينة منصاعة بكل إذعان.. ولبس بإمكان "جوجو" التغلب والسيطرة عليها لأنها أقوى منه وهو مخادع كذاب وضعيف السحر... تجردت من الخراطيم والأوعية والإبر والأنابيب الشفافة.. وبقيت أماكن اللدغات محفورة في معصمي وذراعي وستظل تعاشرني إلى زمن طويل... لم أدر كم طالت إقامتي في غرفة السرير الأبيض سوى أنه ذات ظهيرة كنت أشيع بصري إلى قسمات الطبيب المنتصب قبالتي وهو ينقل نظراته بين الأوراق والتقارير التي يمسكها بيده وبين حالتي القلقة من طول مدة البقاء.. وبمجرد أن جاءتني البشرى من بسمته الرقيقة وارتياح وجهه حتى تحاملت على الوقوف، وتفرقعت عظامي الكسلانة وأنا أودع أجواري المستسلمين للكمامات والأجهزة... وفي مربض السيارات الجاثمة تحت الطوابق العالية استنشقت الهواء الصافي وتبخرت روائح الأدوية ومنذ تلك الساعة لم أر سيارتي إلى الآن..

التعليقات

سياسة التعليقات على موقع الثقافية التونسية.
1. يرجى الالتزام بالتعليق على الخبر أو التقرير أو المقال نفسه ، والابتعاد عن كتابة تعليقات بعيدة عن موضوع الخبر أو التقرير أو المقال.
2.يرجى الامتناع نهائيا عن كتابة أي عبارات مسيئة أو مهينة أو أي كلمات تخدش الحياء أو تحمل سبا وقذفا في أي شخص أو جهة أو تحوي معان مسيئة دينيا أو طائفيا أو عنصريا

أحدث أقدم

إعلانات

إعلانات